قراءة نقدية في قصيدة: ” نصر من الرحمن ” للأديب الأردني زيد الطهراوي
رائد محمد الحواري | كاتب و ناقد من فلسطين
القصيدة الجيدة هي تلك التي تستوقفنا، ليس لأنها تحمل فكرة جميلة فحسب، بل لما فيها من خصب، فهي كالأرض البكر، كلما حرثتها تثمر، في قصيدة “نصر من الرحمن” نجد ما يستدعي التوقف عنده، فهناك تكامل بين بيت صدر البيت وعجزه وتناقض في الوقت ذاته، والتكامل يكمن في المعنى والألفاظ، والتناقض في الألفاظ، هذا ما نجده في فاتحة القصيدة:
“إملأ فؤادك باليقين ملبِّياً
فالجرح فوَّار الدماء و غاضبُ”
فنجد صدر البيت أبيض: “إملأ، فؤادك، باليقين، ملبِّياً” بينما نجد القسوة والألم في العجز: “فالجرح، الدماء، و غاضبُ” لكن هناك تكامل في الفكرة، وتكامل بين ألفاظ: “أملأ/فوار” وهذا الشكل من التناقض في الألفاظ، يخدم فكرة الصراع، الصراع بيننا وبين المحتل، وصراع الشاعر مع واقعه، لهذا لم يستطع أن يقدم نص أبيض مطلق البياض أو مطلق السواد، فكان هذا الشكل الذي يوصل إلى أن الفكرة من خلال توقف القارئ عند الألفاظظ بشكلها المجرد.
“و القدس ميراث يسيل أريجه
فتنير في عمق الظلام مساربُ”
يعطينا الشاعر مثل آخر على هذا (التوازن) بين الخير/البياض والشر/السواد، فنجد ما لحق بلفظ القدس جاء بمضمون أبيض:
“القدس، ميراث، يسيل، أريجه” حتى أنه أتبعه بلفظ من عجز البيت “فتنير” وكأن وهذا البياض ناتج عن أثر القدس، فقد تعدت بيضاها ما ما هو أبعد منها/عجز البيت، فنجد التكامل بين “القدس/أريجه/فتنير”، لكن هناك تناقض بين “فتنير/الظلام” وهذا ما يشير إلى تناسق تركيب الألفاظ في القصيدة، لكنه تناسق غير مخطط له، فهو جاء بعفوية، وبأثر من العقل الباطن للشاعر، لهذا سنجده يخرج عن هذا التريب في أبيات لاحقة.
“يا قلبَ من ألِفَ المروءة و ارتقى
عمّا قليل سوف يفنى الغاصبُ”
البياض يكمن في “قلب، ألف، المروءة، ارتقى” والقسوة/”السواد نجده في يفنى، الغضب” وهذا يعد البيت الثالث الذي جاء على بنفس وتيرة فاتحة القصيدة، لكن في البيت التالي يتم (خلط) ترتيب البيت وألفاظه مع بعضها البعض:
“إن البكاء هو المحال و أنت في
آمال مجدك تنتشي و تحاربُ”
فبدت القسوة/السواد في “البكاء المحال” ناتجة عن الطاقة الإضافية التي أخذها الشاعر من البييت السابق والبياض المطلق الذي جاء فيه: “قلب، ألف، المروءة، ارتقى” لهذا تم تقديم السواد على البياض، لكنه يستدرك عقله الباطن أنه (أخل) في بنية القصيدة، مما جعله يتقدم من البايض: “مجدك، تنتشي” مصححا ما أحداث من (خلل) في وتيرة القصيدة.
“الأرض أرضك و اللئام تمردوا
و الفجر فجرك كي يعود الغائبُ”
الجميل في هذا البيت الحفاظ على وتيرة الأبيض والأسود بطريقة جديدة، فنجد البياض في صدر البيت “الأرض، أرضك، والسواد/القسوة: “اللئام، تمردوا” وأيضا عجز البيت يحمل عين الترتيب، البياض في “الفجر، فجرك، والسواد في “الغائب” وهذا الشكل الجديد يمثل حالة (تمرد) على شكل القصيدة وعلى الهئية التي قدمت فيها، وكأن الشاعر أخذه لفظ “الأرض أرضك” إلى الثورة والخروج على ما هو (مألوف/عادي) فجاء هذا البيت بترتيب جديد، ليؤكد على حالة الصراع والتناض، فكان متماثل/مطابق لما يجري في القدس بين المحتلين والفلسطينيين.
“تتلون الدنيا فهذا يعتدي
و يؤُزُّهُ خوَّانُ عهد خائبُ”
معنى البيت بمجمله أسود وقاسي، لكن هناك ألفاظ بيضاء “تتلون، الدنيا” ونلاحظ أن هناك غالبة للسواد من خلال “يعتدي، يرزه، خوان، خائب” وهذا متماثل مواقع الصراع، فالغلبة عمليا للاحتلال، الذي أخترق النظام الرسمي العربي علانية، في المقابل بقى المواطن العربي رافضا لما يحصل، لمنه رفض سلبي، رفض ليس له أثر فعلي على الأرض، هذا ما أكده الشاعر حينما قال:
“أما الصديق ففيه حرقة ساكن
تَئِدُ العدى لو أُطلقت و تغالبُ”
فالألفاظ “حرقة، ساكن” توصل فكرة واضحة عن هذا الرافض/الصديق/المواطن، ونلاحظ أن هذا البيض في أفعال شديدة وقاسية لكنها ليست سوداء، “حرقة، ساكن، أطلقت، تغالب” فالبيت مكمل لما سبقه، فالثورة فعل قاسي وشديد، ويحتاج إلى جهد وتعب، فالشاعر يريد بث روح القوة في المتلقين، لهذا ابتعد أن ذكر الموت والفناء.
“سبعون عاماً في النضال متَيَّماً
و عدوّك المأفون كِبْرٌ ذائبُ”
رقم سبعة/سبعون ورقم ثلاثة من الأرقام الدينية/التراثية التي تعطي معنى الاستمرار، المدة الطويلة والدائمة، فرغم أن سبعون” يتماثل مع واقع فلسطين التي تعيش تحت الاحتلال، إلا أنه يمكن أن نأخذ الرقم ببعده التراثي والديني، لأنه يعطي المعنى بعدا أدبيا أجمل وأعمق من بعده الواقعي، وبهذا يكون الشاعر قد مزج بين الواقع والتراث، وأعطا القصيدة بعدا جماليا، وهذا (الجمال) يأخذنا إلى لفظ “النضال” الذي فيه من التعب والقسوة الشيء الكثير، لكن نتيجته تأتي جميلة، حتى أن المناضل (لا يدري) كيف نسى ما ألم به من تعب وقسوة وألم، بعد أن يتكلل نضاله بالنصر.
“و سجالك الممتد وضحاً في المدى
هو للنفوس غمامة و أطايبُ”
نلاحظ المسافة الشاسعة في “الممتد، المدى” ونجد الوضوح “واضحا”، في المقابل نجد التشويش في لفظ “غمامة” لكن معنى وأثر الممتد، والمدى، واضحا” أكبر وأشمل ومستمر، بينما معنى “غمامة” مؤقت ومحدود، هذا إذا أخذنا المعنى المجرد ـ فما بالنا إذا علمنا أن المنعى المقصود ب “غمامة” هو الغيم حامل المطر!، بالتأكيد سيكون هناك نشوة عند المتلقي، الذي سينبهر أكثر بالممتد، المدى، غمامة، أطايب”.
“صِدقُ المسيرة ليس يدرك كنهه
زورٌ و لا يرنو إليه الكاذبُ”
البياض في “صدق، المسيرة، يردك” والقسوة في “زور، لان الكاذب” وهذا متماثل مع نهج الشاعر في ترتيب أبيات القصيدة، فنلاحظ التناقض بين “صدق/الكاذب، والتمكال بين “ليس يدرك/لا يرنو”
“وطن يزورك في المنام و يقظة
كسفير شوقٍ نضَّرَتْهُ مناقبُ”.
اللافت أن الشاعر كلما استخدم لفظ “وطن” أخذه اللفظ البياض المطلق: “وطن، يزورك، يقظة، كسفير، شوق، نضرته، مناقب، فالوطن يمثل الطبيعة، وما تحمله من صفاء وهدوء، لهذا نجد الشاعر متأثر بهالوطن/بالطبيعة، مما جعل البيت بمجمله أبيض.
“و يضخ فيك دماءه و تضخها
و لهامة المطلوب يسعى الطالبُ”
هذه المرة الثانية التي تتكرر فيها ألفاظ متماثلة: “ويضخ/يضخها، المطلوب/الطالب، فالشاعر يريد بها أن يلفت القارئ إلى أهميتها، لهذا كررها، فنجد الفعل المتبادل، وكأن هناك حالة حرب/سجال بين ويضخ ويضخها، وبين الملوب والطالب” وهذا يوصل فكرة (المعركة/الثورة) من خلال معنى الألفاظ المجردة.
“نصر من الرحمن يكتسح العدى
فيضج بالشكوى الذليل الهاربُ”
صدر البيت جاء ابيض: “نصر، الرحمن، وقاسي: “يكتسح، عدى” وعجزه جاء بمجمله قاسي: “فيضج، بالشكوى، الذليل، الهارب” لكن هذا القسوة متعلقة ب”العدى” وليست بالشاعر أو بأهله.
ونلاحظ أن خاتمة القصيدة جاءت تكمل فاتحة القصيدة “إملأ فؤادك باليقين ملبِّياً” فالامتلاء باليقين كان نتيجته “نصر من الرحمن” وهذا ما يجعل القصيدة متكاملة في بنيتها وألفاظها ومعناها، مما يفيد/جعل الصراع/التناقض بين صدر البيت وعجز تكون بالنصر من الرحمن.