السَّواري

محمد فيض خالد | كاتب وقاص مصري

تَلحظه عينك لأولِ وهلةٍ، عَجوزا يتبختر في زيهِ العَسكري الكالِح، مُتباهيا بجَسدهِ الفَارِه  الخَشن ، وملامحه الصَّارمة، ووجهه البَاسِر الصّلد ، تَتهيّب طلّته العيون ، يرن صوته الجَهوري القَادِمُ من أغوارِ جُبٍّ سحيق ، في قَسوةِ الموتور، مُحذِّرا أرباب الدّور الفقيرة ؛ من التمادي في السَّهرِ لوقتٍ مُتأخر، اُقسِمُ أن النّاس باتوا يخشون حصانه الأحمر، كخشيتهم “عبد العزيز السّواري” أو أشَدّ خشية، رأيته لأولِ مرةٍ ، كُنتُ صغيرا اجري خلفَ عَنزاتٍ فوقَ ترابِ الصَّليبة ، كعادتهِ لم يعبأ بي، يُلهب ظَهرَ حصانه بقطعةِ جلدٍ سميكة، فهذا أوان مروره اليومي مُذ عَرفناه، يُعانِد الرِّيح ، يُسَابِق حِوَم الطّير العائدة لأوكارها عِندَ المَساءِ  ،يُطالِع الفضاء في شُموخٍ  وجَهَامة، وكأنّما خُلِق الوجود لنظرهِ كي يتجول، لم استطع لزمنٍ التحقق من مَلامحهِ الغليظة، واتتني الفُرصة ذاتَ صَباحٍ، وجدتني وجها لوجهٍ مع ذاكَ المارد العجوز ، انتابتني قشعريرة جَفّ  لها حلقي ، ظَهرَ الخَلاءُ  في صمتهِ المُفزِعُ، وكأنّما يطنّ بنشيدٍ سخيف الكلمات ، اقترب مني يطلب إناءً يسقي دابته، مرّ الوقت كأصعبِ ما يكون ،  من جديدٍ  جاهدت كي اتمالكَ شتات نفسي، على مهلٍ أخذت اتفحّص المخلوق الواقف في صَلفٍ، تَبدّدت أحلام الصّداقة بيننا، وأنىّ  يكون هذا و” السّواري ” لم يتخذ له صديقا أو سميرا ، ولا تُعرف له عائلة منذ قَدِم، تركت أفكاري الوجلة للحظاتٍ تَرتعُ في الفضاءِ الأخضر، علّي انفض عنها بقايا خشوعٍ وإكبار، في ضيقٍ وَتبّرم نَفَضَ عن سترتهِ العسكرية غُبار الطّريق ، بدت أزرارها النّحاسية التي كساها الجنزار لعقود ،  عيونا  وقحة ترصد في تبجحٍ   كُلَّ من حولها ، تسابقت أصابعه الطِوال ، تُخلّل في هدوءٍ زوايا شاربه الفضي،  في رزانةٍ يفتل شعراته الشُّهب ، بدت كأنصالِ سكينٍ حاد ، في هاتهِ اللّحظة أطلّ من عينيهِ الغائرتين بريقٌ أخاذ ، زَادَ  من سُمرةِ أخاديد وجهه الأعجَف، غيرَ أنّ شفتيه الغِلاظ حين ابتلعتا لفافة الدّخان ، أمّنت على كلامِ “عبدالعزيز الطّحان ” حينَ صَرَحَ ذاتَ مساءٍ، وهو يتناول غرارة القمح: إن “السّواري” قادمٌ من مجاهلِ الصّعيدِ، لقد قضى بمفردهِ في ليلةٍ واحدة ، على خمسين من عُتاةِ اللّصوصِ،  منذ مطلع الشّمس حتى المغيب و أقاصيصه  تلف الحقول، فتزيد من جسارتهِ بشكلٍ مروّع، لعلّ أشدها ضراوة تلك التي تزامن صُفرة الفضاء، وهو يستقبل سحنة المساء القادِم من خلفِ أشجار الكافور العتيقة ، المُلاصقة لماكينةِ المياه المهجورة ، يقصّها الجَمعُ العائدُ من فوق ظهورِ الجاموس، سمعت من طَلَقَ امرأته ثلاثا؛ إن ” السّواري” ارضعته أمه لبنِ  ذئبةٍ ، وتلك الرّضعة خلقت منه شَبحا ، لا يَهاب اللّيل، ولا يخشى الظّلام، ولا يعتد بالذئابِ التي ألفته كابنٍ من قطعانها ، تراه يُبعثِر نظراته كذئبٍ عجوز ، يحتويك باصفرارِ حدقة عينه الأخاذ ، لا يشعر بغضاضةٍ أو استنكاف، حينَ تراه ينهر فلاحا بلكنةٍ صعيديةٍ جافة ، وعصاه  الخيزران الرخوة ، تَشقّ الهواء، فتيّبس  الدّم في العروقِ ، يحسب له الخفر ألف حساب ، يدور الكلام عن أنّ له عدوا في كُلّ قريةٍ ، من أبناءِ الليل وصغار المنصر، لا تزال أمانيّ ” مخيمر الخفير ” حاضرة ، تُخالِط سُعال صدرهِ  الرّطب، ويده مرفوعة بالدّعاءِ ساعة المغيبِ، قابضا بيدهِ غابة الجوزة ؛ أن يُمكِّن منه أبناء ” الجبلاوي” ، قال : لقد تمكّنوا منه ، فاحكموا وثاقه أيام الذرة ، فلمّا غوّرت النّجوم واسحر اللّيل، اختطفه حصانه ، وطَارَ بهِ حتى ادخله النقطة ، زارَ قريتنا بائع الرّباب، سِرنا كعادةِ تلك الأيام خلفه ، نتلهّى بينَ الأزقةِ بألحانهِ الصاخبة ، قال في نبرةِ الخَبير : إنّ شعرة من ذيلِ حصان ” السّواري” تعيش عُمرا في أيةِ ربابة ، ظلّ هاجسا يُنازِع خيالي المتحفز كلّما شاهدته ، لكنّ الجُبن المُورِق فينا، يقطع عني كُلّ وسيلةٍ لنيلِ الشّعرة ، حتى لحظتنا هذه .

تبرّمت الأيام في جفوةٍ كعادتها ، تبدّلت أحوال الدُّنيا وأهلها ، فامتلأت الجُسور بعرباتِ الحكومة تجري طول النّهارِ ، لم يعد ” للسّواري” أثر، ودّعت قريتنا مُنذ أيامٍ ، آخر أبناء  رعيلها  الأول ، وبغيابهِ خلت المجَالس  من تردادِ سيرة ” السّواري ” ،  تنكّرته الأجيال فيمن تنكّرت ، ليصبح اسمه أثرا بعد عينٍ ، ويطوى في ذاكرةِ الأيام ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى