مؤرخون يكتبون بحبر الملوك والسلاطين
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
لكل مؤرخ في التاريخ الإنساني هناك مَنْ يملي عليه من الأباطرة والملوك والزعماء الأقوياء المنتصرين، أو ما يملي عليه من أيديولوجيات وعقائد وآراء ومفاهيم ومناهج سياسية وتربوية أبوية فردانية، لهذا لم تكن لحظات قوة وتوحش التاريخ الدامي هي ذاتها في رواياتهم وسردياتهم جميعاً.
وما رآه المؤرخ الإنكليزي جيبون مؤرخ سقوط الرومان ومؤلف كتاب (اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها) الذي يعتبر من أعظم وأهم المراجع في موضوعه، والكتاب مؤلف من ستة أجزاء من عام (1776 ـ 1788) م، ليس كالذي رآه المؤرخ البريطاني أرنولد جوزف توينبي مؤلف موسوعة (دراسة التاريخ)، أو المؤرخ والكاتب الأمريكي ويليام جيمس ديورانت (ويل ديورانت) مؤلف كتاب قصة الحضارة هو وزوجته أريل ديورانت. وبالنسبة إلى مؤرخينا العرب، ثمة فوارق واضحة لا في الأساليب فقط، بل في الرؤى والاتجاهات أيضاً، فابن الأثير وهوعزالدين أبي الحسن الجزري الموصلي (630 ـ 555) هــ المعروف بـابن الأثير الجزري، وهو من أبرز المؤرخين المسلمين، عاصر دولة صلاح الدين الأيوبي، ورصد أحداثها ويعد كتابه الكامل في التاريخ من أهم المراجع لتلك الفترة من التاريخ الإسلامي .مثلاً رأى ذروة توحش التاريخ وعنفه وقسوته في غزو المغول للعراق في العاشر من شهر شباط عام 1258 ميلادية بقيادة هولاكو خان، حاكم إلخانية فارس عندما بنوا أبراجاً من جماجم الشعب العربي العراقي المسلم، لهذا تمنى ابن الأثير لو أن أمه لم تلده كي لا يرى ما رأى من وحشية وعنف وقتل وسحل أجساد الرجال والنساء والأطفال في الشوارع، أما زين العابدين محمد بن أحمد المعروف بـ بن إياس الحنفي ويكنى بـ أبو البركات،وهو مؤرخ مصري ولد في القاهرة عام 1448 م . ويعتبر من أشهر المؤرخين الذين أرّخوا للعصر المملوكي، ويعدّ كتابه بدائع الزهور قي وقائع الدهور ضمن 5 أجزاء في 6 مجلدات، فقد رأى ذروة توحش التاريخ في ذلك التحالف الشيطاني بين الفقر والظلم ووباء الكوليرا في أيامه، فالجياع والحرومين والمشردين كانوا يختطفون المارة ولا يتورعون عن أكل لحمهم من شدة الجوع الضاري، ففي عصره تحدثت السرديات والروايات أنه رأى جياعاً يأكلون بغلة القاضي، وثمة آخرون أكلوا جثث الموتى. ولو شئنا الاستطراد في كل ما قيل عبر التاريخ عن حالة التوحش والعنف التي شهدتها منطقتنا العربية لبدت لنا المشاهد والروايات الفظيعة التي يصفها وكأنها من الجحيم وفي الدرك الأسفل من النار .
وهناك مؤرخون منهم أوروبيون وغربيون رأوا ذروة توحش التاريخ في حروب الفرنجة (الحروب الصليبية) التي قام بها أوروبيون من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر(1291 ـ 1096) م .عبر حملاتها المتعاقبة على مدينة القدس. بينما رأى عدد كبير من المؤرخين أن هذا التوحّش بلغ أوجه في الحربين العالميتين الأولى والثانية التي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر .
لكن للكتاب والأدباء والشعراء والفنانين من رسامين وموسيقيين ومسرحيين مقتربات كثيرة أخرى، فذروة هذا التوحش بالنسبة إلى فنان مثل الرسام والنحات والفنان التشكيلي الإسباني بابلو رويز بيكاسو هو ما حدث في قرية غورنيكا التي خلَّد فيها تراجيديا الحرب الأهلية الإسبانية التي شهدت أخطر العمليات الوحشية اللا إنسانية.
من هنا نجد أن التوحش من سمات الكثير من الدول والحكام والسلاطين والجيوش. لذا لا يمكن لأحد أن يشك في أنّ العشرين عاماً الماضية قد شهدت توحشاً أشد ضراوة وقسوة من كل ما تم وصفه في السابق. فالقسوة في هذه المرحلة في أقصى تجلياتها العنيفة، وثمة تنكيل متبادل بين الجلّادين وضحاياهم، وكأن هذا التوحش وهذا العنف اللا إنساني تحوّل إلى ثقافةٍ انتشرت في كوكبنا الأزرق .