الفن التشكيلي أبجدية الحضارات عبر السنين

 شيخة الفجرية | سلطنة عُمان

منذ بواكير حياتنا الدراسية اطلعنا على لغات الحضارات، التي كانت مادة ندرسها في المدرسة، وبيد أننا اعتدنا على رؤية الحروف المنتظمة في الأبجدية العربية، ولاحقًا انضمَّت إلى قاموس يومياتنا المدرسية أبجدية أخرى هي الأبجدية الإنجليزية، فإن رؤيتنا للرموز والرسومات المصوَّرة على الرقائق والأحجار _سواء من خلال الصور التي تدعم بها الدروس أو من خلال التلفاز _أثارت فينا السؤال: كيف تكون بقية أحرف اللغات القديمة عبارة عن رسومات وأشكال هندسية؟ ثم يقفز سؤال آخر: هل كنا سنعرف ما نعرفه الآن عن الأمم السابقة لولا الرسومات التشكيلية في اللغة المسمارية والهيروغليفية والمسند العماني واللغة السلوتية _المكتشفة حديثًا_ وغيرها من اللغات التي تخط بالرسم التشكيلي؟ ما يجب أن نفكر فيه مدى الاستثمار الحضاري الذي انبثق من الفن التشكيلي عبر العصور، وما مثلته حروف الأبجديات المرسومة في الكشف عن عوالم حضارية لا نراها ولكننا نفكك معنى رسوماتها لنفهم التطورات الطارئة على الأنثروبولوجيا من جميع جهاتها وزواياها.

وتأتي الجلسة الفنية الافتراضية المثرية التي أقامها النادي الثقافي عن “ صناعة الإبداع في الفن التشكيلي “، وعن مفهوم الصناعة في اللغة، فإن أغلب المعاجم تتفق بأنها تعني” كلّ علمٍ أو فنٍّ مارسه الإنسانُ حتى يمهَر فيه ويصبح حرفة له”، والفن التشكيلي حرفة يمارسها الفنان حتى غدت حرفة له يتكسب منها حسب المجتمع الذي يعيش فيه؛ فالمعلوم أنه بحسب المجتمعات تزدهر الفنون. والجلسة الافتراضية قدمتها الدكتورة فخرية اليحيائية، التي أكدت أنه: “يجب التركيز في الجانب الإبداعي… تلك السلع والخدمات التي تستعمل الإبداع كرأس مال فكري كمدخلات أولية لهذه الصناعة”، ثم أشارت قائلة: “نتوقع في الأيام القادمة، أو لربما بدأت الدول المتقدمة أن هناك طبقة من المجتمع يقودها الفنانين والموسيقيين والعلماء والأدباء القادرين على إدارة الاقتصاد المعرفي أو الاقتصاد الإبداعي”، مما يعني أن هذه الجلسة هي من أجل مناقشة إمكانية استثمار الثقافة والفن من الناحية التجارية. وعليه استضافت الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة المصري الأسبق وأستاذ علم نفس الإبداع بأكاديمية الفنون، الذي كتب الكثير عن الفن والثقافة والإبداع في كتبه الآتية: العملية الإبداعية في فن التصوير، كتاب الطفولة والإبداع، الأدب والجنون، التفضيل الجمالي دراسة في سيكلوجية التذوق الفني، عبقرية الإبداع، الخيال وغيرها الكثير من المؤلفات القيّمة. ثم الدكتور ياسر منجي فنان وناقد مصري أكاديمي باحث في مجالات الفنون التشكيلية ودراسات التراث والمتاحف، الدكتور محمد العامري أستاذ الفن والتربية رئيس قسم المناهج والتدريس بكلية التربية بجامعة السلطان قابوس.

بدأ النقاش بالمفاهيم والمصطلحات الصناعية الإبداعية الثقافية كان أبرزها اختراع التلغراف للفنان التشكيلي صمويل مورس، تلك الصناعة التي مهد لها بإنشاء أكاديمية للفنون في نيويورك، ليقود ثورة الاتصالات والمعلومات بعد ذلك.

ودور الفن في صناعة التلغراف أبرز مثال على تألق الإبداع ما بين قديم وجديد جوهره الأصالة، وهو كما يقول ويليامز: “أمر يعزّ وصفه”، إذ يصدر –كما يقول روجرز – عن ميل في الإنسان ليحقق ذاته ويستغل أقصى إمكاناته. وهو ما بذله الرسام لويس داجير الذي اخترع التصوير الفوتوغرافي عام ١٩٣٩ ليقود بذلك ثورة صناعة الطباعة والإعلانات والطب، ليواصل الفنانين “أديرنو وهروكوهايمر وهابرماس “صناعة الثقافة المنسوب لمدرسة فرانكفورت في الثمانينيات، والذي تبنته اليونيسكو ليتم تعميمها على دول العالم كسلعة تم ربطها بالاقتصاد.

وحدث أن تم الحديث عن العلاقة بين المبدع والمتلقي، الذي شرحه يونغ بقوله: “فاوست هو الذي خلق غوته وليس العكس، فاوست موجود في أعماق كل ألماني”. وفي مقالة بعنوان (الشعر وعلم النفس) يقول (يونغ): “الشعر العظيم يستمد قوته من حياة الإنسان كنوع، وسنخطئ معناه بشكل تام، إذا حاولنا استلال ذلك المعنى من عوامل شخصية”.

وكذلك في كتاب (الهوامل والشوامل) يتساءل أبو حيان التوحيدي عن طبيعة الإدراك الجمالي فيقول: “ما سبب استحسان الصور الحسنة؟ وما هذا الولوع الظاهر والنظر والعشق الواقع من القلب والصبابة المتيحة للنفس والفكر الطارد للنوم والخيال الماثل للإنسان. أهذا كله آثار الطبيعة؟ أم من عوارض النفس؟ أم هي من دواعي العقل؟ أم من سهام الروح؟

وهو ما لفت إليه الدكتور ياسر منجي إلى أن العلاقة بين مفهوم النفعي، والجمالي كانت ممتدة عبر التاريخ وهي علاقة فيها الكثير من القمم والوهاد، لأنها تصير حميمية في بعض الأطوار الحضارية بينما يحدث الانفصال نتيجة ظروف اجتماعية سياسية اقتصادية في ظروف حضارية أخرى. ثم أكد: أن الفن الإسلامي كان سبّاقًا إلى كسر حاجز لم ينتبه له الغرب إلا بعد نضوج عصر النهضة.

وإن كان “الفن ينقل العواطف الكامنة في النفس ويفصح عنها بشكل فصيح وجذاب فهو يعبر عن العالم الداخلي للإنسان المبدع وليس فقط عن العالم الخارجي وعن آثار الانسان والزمان” كما يقول علي عبد الرزاق، فإنه “ليس المبتدع من يبتني له حوضاً تجاه ينابيع المطبوعين يرصفه بحجارتها، وحصبائها ويملؤه بطينها ومائها، ثم يدعوه بغير اسمائها ولكن المبتدع، من يكون له ينبوع يتفجر منه الماء كما يتفجر من ينابيع المطبوعين، ويستقي منه كما يستقون.

ولا قبل باستنباط هذه الأمواه الطبيعية إلاّ لمن كان له سائق من سليقته يهديه إلى مواقع الماء وبصر كبصر الهدهد الذي يزعمون انه يرى مجاري الماء تحت أديم الارض وهو طائر في السماء” وهنا يأتي دور المؤسسات التي قال عنها الدكتور محمد العامري” إن “منظورنا للإبداع نفسه هو الذي يحدد الغايات الأخرى للتربية. البعض يقول: إذا كانت التربية للجميع فالإبداع للبعض باعتباره غاية كبيرة تسعى إليها المؤسسات التربوية بشكل أو بآخر”. ويواصل القول بأنَّ: “هناك مغالطات في تعريف الإبداع أو ربطه بالذكاء، وليس بالضرورة أن كل مبدع ذكي والعكس صحيح”، ولا يبدو أن دوستويفسكي يوافقه ذات الرأي وإن لم يكن قوله نافيًا أو مطابقًا ولكنه بالتأكيد أدق تعبيًرا إذ يقول: إنَّ “الإنسان إذا لم يكن له تصور راسخ عن ذاته، وعن غاية حياته، لن يرضى بالحياة ويفضل أن يدمر نفسه على أن يبقى على وجه هذه البسيطة حتى ولو كان غارقاً في الخيرات المادية”.

كل ذلك يعزز أهمية الفن التشكيلي الذي بدأ لغة تواصلية استفادت منه الحضارات القديمة في التعبير عن وجودها الحقيقي في كوكب الأرض منذ آلاف السنين،  ليتطور إلى لغات متعددة هي فسيفساء إنسانية تعبير وجود الإنسان  الآني و راهنية تفاعله في صنع حضارات مستقبلية ممتدة تتحرك باتجاهات صناعية في الرسوم والسينما والفن في  إطاره العام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى