حشرة التفكير المعتمة
حنان بدران | فلسطين
ما بين الفكر القتيل والفكر المقاتل، ما زال الفكر النازي والفكر العربي ظاهريا ينطوي موقفهما على احترام وتقدير لأنها العلم، ورغم أن ما يظهرانه إلا أنهما يؤديان مهمة واحدة ألا وهي: وأد الفكر الإبداعي الحقيقي.
رغم أن نازي الفكر لا يستوقفني لأنه يدرك المعنى الحقيقي لكلمة (ثقافة) وما هو دورها ومهمتها.
والفكر العربي له وجه آخر من وجوه التخلف العربي الفكري عانى منها على طول تاريخه حتى الآن: وهي خلطهم بين حبهم للفظة معينة وبين استعمال اللفظة كأداة للتعبير عن فكرة…
ما زالت “الكلمة” وثن العرب، وما بين الكلمة في أبلغ صورها و (أفصحها) وأجملها كان العربي يتأرجح في حياته من أفراح وأحزان:
إذا أحب أو حارب أو اغترب شحذ لسانه في القريض أكثر مما أغمد سيفه في العدو…
وإذا كان له حاجة عند الوالي وقف على بابه عارضا فصاحته قبل أن يستعرض عدالة قضيته…
لهذا تجد أكثر تراثنا العربي يهتم بحضارة (اللفظة) قبل (حضارة الأداء). ومن يومها للآن ونحن صرعى أفيون الكلمة.. والكاتب لدينا صريع عشق اللفظة في داخل كل عربي مفكر مازال يعيش ذلك الأعرابي الذي يعيش عصر صناعة الكلمة بدلا من صناعة (التكنولوجيا) أو المساهمة فيها.
حتى أن أكثر تراثنا العربي قائما حرفيا على حضارة اللفظة قبل حضارة الأداء.. حتى عموم جماهيرنا ما زالت تسقط صريعة أفيون الكلمة خطاباتنا ، أغانينا، اناشيدنا، وما زال الكاتب فينا يعشق اللفظة ويعاودها.
ولا أعرف إلى أي حد استطاع الكاتب والمفكر والمبدع العربي أن يعي حجم الهجمة والحرب المزدوجة التي فرضت عليه: حربه مع داخله من أجل إعطاء الأفضل، أو حربه مع الأنظمة الحاكمة التي تضيق الخناق عليه والتي عليه أن يناضل لانتزاع مزيد من حرية التعبير والتفكير… ليخلق مناخا واعيا ثقافيا وإنسانيا.
قال غسان كنفاني ممتعضا بصوت صارخ ذات مرة: (المشكلة التي تواجه الفكر أساسا جريمة ترتكبها بعض الأنظمة العربية حين تعتنق تلك النظرية التي تنتسب إلى العصور الوسطى والتي تؤمن بأن هناك علاقة بين حرق الكتاب وحرق الفكر).
وما زال داخل بعض حكامنا هناك نازي يشهر مسدسه أمام كلمة ثقافة ويرتاع مرتجفا لكلمة فكر..! وما زال اللص يلقى عقوبة على قضية السرقة أكثر من يلقى القبض عليه بكتاب ممنوع.
وبما أننا في عصر السوشيال ميديا والتي زمام أمرها بيد دول لا تمانع الحرية ولكنها تمارس عكسها علينا جميعا كمحاكم التفتيش حتى يعم الشلل الفكري، وهي أبدا لن تنتصر لأن من يخاف من الحبر والورق صعب عليه أن يخاف من الرصاص والقنابل.
ورغم الموقف العدائي من أي موقف فكري حر إلا أن الكتابة عن فلسطين بقيت التريند كون فلسطين موضوع فريد في التاريخ الإنساني كونها عاشت النفس العربية ذروة مشاعرها كلها: الطهر، العار، النقص الخزي، الندم. كونها قضية لها دورها الخاص وليست قضية عادية تختلف عن أي حرب من الحروب التي ذكرها التاريخ أو ثورة ضد حاكم طاغية في صقيع الأرض.
إن الرحلة التي خاضها الكتاب على اختلاف مشاربهم عن فلسطين لهو أمر إيجابي سياسي وقد لا يكون أدبيا… وهذا أمر يجب ألا نقف عنده طويلا لأن يجب أن لا نعطي غضبنا حجما أكبر من حجم الحقيقة الأهم في كل مراحلها: وعلينا أن نقر في أن في هذه الرحلة شيء إيجابي عن الأدب القتيل في موجة الرغبة في القتال… وهنا علينا أن نتذكر مقولة غسان كنفاني في الأدب المقاتل: ما يسمى بالأدب المقاتل يشبه الجنس لشباك تذاكر السينما، وهذه ظاهرة بقدر ما هي طبيعة لكنها ليست سيئة بالمطلق.. كون الجميع بات يدرك أن أي عمل فكري قائم أول على الموهبة والموهبة قبل النية الحسنة التي تجعل من الالتزام قضية اختيار ذاتي وليست ركوب موجة.
ولا نستطيع الآن أن نذكر الأدب الفلسطيني بمعزل عن حركة التطور الأدب العربي.. بشكل مختصر أستطيع أن أقول العزف انفجر في الأوطان العربية عباقرة أناس عاديين طبالي زمارين ، كلهم كانوا يحملون العصي من خشب الزيتون الفلسطيني… والكل ركب الموجة بحكم موهبته أو من باب الركود، ورغم أني ضد أثرياء الحرب الفكريين وضد الاتجار بالحرف والكلمة عبر الإثارة.
لهذا نجد أن النتاج العربي الجدي – إن وجد- لا يجد للأسف التربة الخصبة لنمو بذوره واحتضانها وأيا كان رأينا في مستوى الأوركسترا العازفة في الفكر العربي لا ننكر أنهم اجتهدوا جميعا بالعزف وعلى كل الأصعدة والمنابر المتاحة لهم كما لم يفعلوا من قبل إلا أن فكرا ما بعد الهزيمة هو لم ينجح بعد في انتزاع مكاسب ومنجزات فكرية كبيرة إلا أنه هز الوتد وخلخله حتى دق المسمار الأخير في تابوت الأدب الغيبي والأدب اللفظي.
وهنا ما يميز الأدب الفلسطيني المقاوم كونه في الأرض المحتلة وبتجاوزه لهذه العقبات وكان له ذلك الطرح المختلف الذي لم يعرفه الشعر العربي من قبل… حيث تدرك وأنت تقرؤه كيف التحمت فعليا الكلمة مع الحياة، لأن شعراء المقاومة لم يكونوا من المتقوقعين قوميا كما اعتدنا أن نراهم في أورامهم الأدبية السرطانية في التبجح الهزيل. وإنما هناك سلاح من نوع آخر سلاح حضاري إنساني يرفع ويشهر في وجه حضارة آلية شرسة ومتوحشة تهدف إلى طمس معالم الإنسان العربي ونجد أن التقدم يقود شعراء المقاومة ينفتحون على تراث الشعر التقدمي العالمي، ولعل لغة محمود درويش الأممية الساخنة وسميح القاسم هي أدفأ النبرات وأكثرها قربا للنفس وأشدها عمقا.
وهنا لا ننسى أن نذكر أهمية الشعر من حيث التأثير المباشر فقد حقق الشعراء انتشارا واسعا بين صفوف المقاومة حيث كان لقصائدهم صدى ملموس بين المواطنين وكانت تمثل دعما حقيقيا كما كان للرواية دور آخر حيث كانت توثق معاناة الشعب الفلسطيني ورصد كل مراحل تطور القصيدة الفلسطينية ولا ننسى على رأسهم الكاتب المناضل غسان كنفاني الذي كان أحد أهم الروائيين العرب والفلسطينيين (رجال تحت الشمس) وهي من أجمل ما قدم عن معاناة الشعب الحقيقية في الشتات، إميل حبيبي (المتشائل)، الكاتب مريد برغوتي برواية (طال الشتات)، جبرا إبراهيم جبرا، وفدوى طوقان. ولن ننسى سطوع نجم ناجي العلي أيقونة الرفض، وما بين شعراء الثورة منهم \”عز الدين مناصرة، معين بسيسو\” وما بين شعراء المقاومة وعلي رأسهم محمود درويش وسميح القاسم، وتوفيق زياد \”وهذا الثلاثي الأخير كانوا يصنفون من ضمن شعراء الثورة نتيجة ارتباطهم بما يطلق عليهم عرب 1948 أكثر من التوجه الأدبي لكل منهم.
من هنا جاء الإبداع الحلم بالمشروع في دولة فلسطينية حرة كاملة السيادة حيا ونابضا، ويشكل إبداعا وأدب مقاومة وكأن الدم يجري في عروق الحلم فتبقيه الكلمة على قيد الحياة.
وهذا الالتزام العقائدي التقدمي يرجع ظهور القضية بكل أبعادها الوطنية والاجتماعية والأممية، ظلت هذه القضية حاضرة في شعرنا الرومانسي مبتورة مجزأة عن هذه الأبعاد.
ومع كل ما ذكرت ما زال كل هذا الضجيج عاجزا عن تجاوز حدودنا… لينطلق لحدود العالمية حامل راياتنا وجثث قتلانا ووجع جرحانا وأنين ثكلانا وحكاية تاريخنا.
وذلك لا يعود لقصور صواريخنا الأدبية حرفيا ولكن لأن قاعدة صواريخنا ما هي إلا أرض هشة ومهتزة، وهي كقاعدة كثبان الرمل المتحركة وفيها صعب أن لصاروخ حضارة أن يقلع منها.