ما لم يقله مكيافيللي في كتاب ” الأمير “
د. خضر محجز | غزة – فلسطين
ليس لي من هذه الكلمات إلا النقل. فلقد وقعت أخيراً على مخطوطة نادرة لكتاب “الأمير”، الذي ألفه المرحوم “مكيافيللي”، واكتشفت لشدة ذهولي، أن فيها فصلاً غاب علمه عن باقي النساخ، ولم يصل إلى المطابع، مع أنني أعتبره من أهم فصول الكتاب الشهير.
ولعلي بإعادة نشر هذا الفصل، أكون قد قدمت خدمة لكل الحكام، الذين يرغبون في دوام حكمهم، وطاعة رعاياهم، وخوف محكوميهم. هذا إلى جانب إثرائي للمكتبة السياسية بما يرفدها، من معالم تنير طريق كل من يسلك سبيل السياسة. راجياً إضافة هذا الفصل المفقود إلى الكتاب، عند صدور أول طبعة له، إن شاء الله تعالى. والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين، في حربهم على الكافرين والغادرين والفاسقين وحزب الشيطان.
قال مكيافيللي رحمه الله:
ويمكن تحويل الموظفين إلى كلاب، عن طريق تقسيمهم إلى الفئات التالية:
1ـ الفئة الأولى: فئة الموظفين الموشكين على الإحالة إلى المعاش، فهذه الفئة قد تحول عدد منها بالفعل إلى كلاب منذ فترة مبكرة، وبالتحديد من لحظة إدراكهم بأنهم خلال سنة أو سنتين سوف يحالون إلى المعاش. فعلى الحاكم أن يستغل هذا الشعور لدى هذه الفئة أحسن استغلال؛ فيمنيهم بالترقيات، لأنهم حينئذ سوف يهرّون بأذنابهم، ويتمسحون بقدمه، رغبة في ترقية سريعة، تضمن لهم رتبة وظيفية أعلى، يتقاعدون عليها، وينالون وفقها راتباً تقاعدياً مجزياً. فمثلاً: المدير الذي يتقاضى أربعة آلاف شيكل، ولم يمض في الخدمة أكثر من خمسة عشر سنة، يدرك أنه سوف يتقاعد عن مرتب لا يتجاوز الألفي شيكل. فإذا دار بخلده أنه معرض للترقية إلى مدير عام، في حالة قيامه ببعض التصرفات المرضية للحاكم، ويتقاضى خمسة آلاف وأربعمائة شيكل الآن، فإنه سوف يديرها في ذهنه بسرعة، ويتوصل إلى استنتاج مفاده بأن راتبه التقاعدي سوف يزيد على الثلاثة آلاف شيكل. وليتأكد الحاكم عندئذ ـ ونظراً لطبيعة نفوس هذه الشريحة البائسة من الموظفين ـ أن هذه الألف شيكل قادرة على تحويل أكبر موظف إلى كلب، مع الإقرار بوجود استثناءات تعزز هذه القاعدة، ولا تنفيها.
2ـ الفئة الثانية: فئة الطخيخة: وهم الفتية الذين قضوا أشطراً من حيواتهم يحملون البنادق، ويتوظفون في الوزارات بناءً عليها. وحيث أن من المعلوم أن هذه الفئة، من مشهري البواريد على جيرانهم عند أدنى خلاف، كان قد سبق تفريغها في الوزارات الحكومية، إبان “العهد البائد”، وصاروا الآن يشعرون بأنهم مقطوعون من جذورهم، وأن حزبهم الذي ظن نفسه يوماً بأنه الله شخصياً، قد خسر الانتخابات آخر الأمر، فقد صاروا الآن على استعداد تام لنقل بواريدهم من الكتف اليمنى إلى اليسرى، والالتحاق بحزب الحاكم الجديد. فيا أيها الحاكم الجديد، أنا أعلم بأنك لن تمنحهم إلا الاحتقار، ولكن ليكن احتقارك هذا متخفياً وراء ابتسامة صفراء. وإليك بعض النصائح بشأن هذه الفئة من حملة البواريد والطخيخة السابقين:
أولاً: ذكرهم بمزايا النضال الوطني، الذي هم أبطاله بامتياز. ولا تنس أن تسبل عينيك خلال ذلك، لتغطي ما فيهما من كذب فاضح واحتقار لا يفيدك إظهاره الآن.
ثانياً: أكد لهم أنك هنا حاكم لكل فئات الشعب ـ تذكر قاعدتنا الأساسية في هذا الكتاب: بأن الغاية تبرر الوسيلة ـ وأنك على استعداد لترقية كل صاحب كفاءة، بغض النظر عن انتمائه السياسي، لا بأس بأن تستشهد ببعض الآيات من القرآن. ولعل بإمكاني هنا تذكيرك بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لبعض جلسائه، عندما استؤذن للأقرع بن حابس التميمي بالدخول: “ائذنوا له. بئس أخو العشيرة هو”.
ثالثاً: اهمس في آذانهم بكلام ناعم ـ أعرف أنك لا تحسن الكلام الناعم، لأن بيئتك التي نشأت وسطها لم تكن مهيأة لغير الفحيح، لكن اضغط على نفسك ـ بأنك ما جئت إلى هنا إلا بعد أن ضغط عليك حزبك، وأنك ما استجبت لهذا الضغط، إلا لرغبتك في محاربة الفساد، وكشف التلاعبات السابقة، التي يعرفونها خيراً منك. ثم توقف عند هذا الحد ولا تزد، فيمسكوا عليك زلة لسان واعدة بالترقية. لأن هذا الوعد يجب أن لا يتجاوز عينيك الكاذبتين.
رابعاً: قل لهم إنك ستقتدي بالخلفاء الراشدين ـ واختر منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؛ لأن سيرته تفعل فعل السحر في قلوب هؤلاء البسطاء ـ وأنك، تبعاً لذلك، سوف تنشئ “ديوان المظالم”، ليتلقى شكاوى الموظفين المظلومين. وأن بإمكانهم أن يكتبوا لك بكل تفاصيل ما وقع عليهم من ظلم، إبان ذلك العهد الذي تتوقع له أن لا يعود. وتأكد حينئذ بأنهم سوف يشون لك بكل ما يعرفون عن حزبهم المهزوم، طمعاً في ترقية تعدهم بها ابتسامتك لا لسانك. ثم تأكد مرة أخرى بأنهم عندئذ سوف يكتبون لك كل ما تشتهي، وسوف يحملون حزبهم السابق ـ الذي هو في موقع العدو ـ كل مساوئ الدهر الحالي والدهور السابقة، من يوم أن قتل قابيل أخاه هابيل، وما سيقع منها إلى حين قيام الدابة التي تكلم الناس.
3ـ قرب إليك الموظفين في الدوائر القانونية، لأنهم أرذل خلق الله في العادة، ومستعدون لبيع الوثائق لكل من يدفع. أما أنت فلتكن بضاعتك الوعود. وإذا ما أحسست بأنك مغادر لسبب طارئ، فقم بتحقيق هذه الوعود لهم، لأنك تعرف أنها لن تنفذ، في ديوان الموظفين. وحتى إذا ما تم تنفيذها، فسوف تشكل عبئاً على الحاكم القادم من الحزب المعادي. وتذكر عندئذ مقولة أبي فراس الحمداني: “إذا مت ظمآن، فلا نزل القطر”. فليلعن الله كل قطر لا يسقي مزرعتك الخاصة.
4ـ الحذر الحذر من موظفي الدوائر المالية: فأنت تعلم خطورتهم وطمعهم وما يمكن أن يفعلوه أو ما يمكن أن يقدموه. وإذا ما شككت في حقيقة نصيحتي بشأنهم، فانظر إلى حجم مرتباتهم، ثم قارنها بما لديهم، وما بنوه، وما تمتعوا به في سنوات قليلة، لتدرك أنهم مجرد منتفعين لا خلاق لهم ولا ذمة. ولا شك سيدي الحاكم، بأن هذه الفئة، إذا ما أحسنت استغلالها، سوف تضمن لك منافع كثيرة، وفوائد جمة، وراحة من مواجهة الخصوم. وليكن معلوماً لهم بأنك لا تنوي تنفيذ كل أوامر الصرف، التي توقعها لكل من طلب حقاً. قل لهم ـ بصورة شفهية ـ بأن لا يصرفوا ما توقع بصرفه، إلا بعد الرجوع إليك، في الغرفة السوداء. ثم دع الباقي لهم، لأنهم يتمتعون بحاسة الكلاب المدربة، التي تدرك ما يريد صاحبها منها، دون كلمات.
5ـ إياك إياك أن تحب أحداً، من موظفيك، فالحب في مثل هذه الحالات قاتل، وينافي المصالح السياسية. ولعلي لست بحاجة إلى هذه النصيحة الأخيرة، نظراً لما درجت عليه من حقد أسود، هو الذي أوصلك إلى هذا المنصب. لكن لا بأس من التذكير بالأمر الذي لا تحتاج إلى التذكير به، تعزيزاً للمصلحة.
فكن حقوداً، كن حقوداً، كن حقوداً.