كائن مائي.. قصة قصيرة
د. سامي الكيلاني
تأخذ حماماً دافئاً ثم تتناول فطوراً خفيفاً على عجل، هناك يوم عمل طويل ينتظرك. هؤلاء الألمان فظيعون، تأتي للمشاركة في مؤتمر ثقافي فتتحول الأيام إلى أيام عمل طويلة متواصلة تعود منها مرهقاً وتلقي بنفسك على السرير لتغط في نوم عميق، ولكن النتيجة أنك تستيقظ مبكراً جداً. تتذكر أغنية الروضة التي كانت الست فتحية تعلمها للأطفال فينشدونها بصوتٍ عالٍ “نم بكّير، فيق بكّير، شوف الصحة كيف بتصير”، ولكن معظمهم لم يكونوا يطبقونها ولا ينامون إلاّ بعد أن تنطفئ مرارة أهلهم. الاستيقاظ المبكر جداً يجعلك تتقلب في الفراش منتظراً موعد الفطور في مطعم الفندق، ولكنه في المقابل يعطيك فرصة المشي صباحاً في هذه المدينة، صباح المدن الكبيرة له مذاق خاص، ولكل مدينة طابعها، ولذلك تنتهز هذه الفرصة عادة، خاصة إن كان موعد البدء في اللقاءات متأخر نسبياً. تخرج من الفندق لتبدأ مشوارك، لكن لسعة برد تجعلك تعود بعد أمتار من باب الفندق لارتداء سترة تقيك برد هذا الصباح الخريفي. منتعلاً حذاءً خفيفاً تضرب في شوارع المدينة التي تدب بها الحياة فيها ببطء. جيد أن جلسات المؤتمر ستبدأ متأخرة قليلاً هذا اليوم، في العاشرة صباحاً. مثل فراخ السلاحف البحرية التي تفقس في الرمل وتهرع بحاستها الدفينة إلى الماء، تقودك قدماك نحو النهر.
تمر بالساحة التي قمتم بجولة فيها بالأمس والتي كانت تعج بالحياة، بعض باعة “النبيذ الطفلي” النشيطين يرتبون براميلهم وطاولاتهم ليبيعوه للمارة، هذا هو الموسم، هكذا يدعون عصير العنب قبل أن يكتمل تخميره ليصبح نبيذاً. تلقي عليهم بتحية الصباح مستعملاً الكلمات المعدودة التي ما زلت تتذكرها من دروس اللغة الألمانية التي تلقيتها قبل عقود، “غوتن تاغ”، فيبتسمون ويردون بمثلها، ثم تقف عند أحدهم الذي تذوقتم منه هذا الشراب وقد نصب طاولته وجهز بضاعته للبيع قبل الآخرين، يقف منتظراً زبائنه بشاربيه الأشيبين المبرومين من الطرف، تصبّح عليه بتحية الصباح، وتضيف “في غيتس إنن”، أي كيف حالك، فيبتسم ابتسامة عريضة ويؤكد أنه “غوت”، وكالعادة يرد عليك “وأنت؟”، فتؤكد له أنك الآخر “غوت”. تستمر في السير مجذوباً نحو النهر كسلحفاة مائية فقست من البيضة المدفونة في رمل الشاطئ.
تصل ضفة الراين قرب مرسى للسفن، حيث أخذت مع زميلين لك بالأمس رحلة نهرية إلى بلدة قريبة، كانت رحلة دون تخطيط مسبق، رأيت سفينة نهرية تتهيأ للحركة، أقنعتهما سريعاً أن تشتروا التذاكر، سألك الموظف في شباك التذاكر عن اتجاه السفر، اخترت من اللوحة المعلقة قرب شباك التذاكر اسم بلدة على الضفة المقابلة، قلت لصديقيك بأنها فرصة أن تروا بلدة صغيرة، فكانت تجربة ناجحة أغدق عليك بعدها صديقك الناصري بلقب “ابن بطوطة” لأنك حسب رأيه لا تطيق الجلوس، وتطلب في أية فرصة ممكنة منهما، وهما اللذان يفضلان الجلوس في ردهة الفندق يشربان القهوة ويدخنان، أن يمشيا ويطوفا المدينة معك. فكّرت صباحاً، اعتماداً على تلك التجربة وسرورهما، أن تدعوهما لمشاركتك في هذا المشوار الصباحي، لكنك تراجعت، فمهما كان سرورهما بتلك التجربة فلن يبلغ الأمر أن توقظهما مبكراً ليشاركا في جولة صباحية مبكرة كهذه.
صفحة الماء يلفها ضباب متحرك، تتأمل المنظر متسائلاً: هل يخرج الضباب من صفحة الماء أم أنه يهبط عليها من علٍ من الغيم الذي فاتته فرصة التكثف مطراً؟ تزجر نفسك “الوقت ليس وقت الفلسفة والعلم”، وتعود لتأمل النوارس القليلة التي تحوّم مطلقة صيحاتها وهي تهبط إلى صفحة الماء. تذكرت صديقيك وكم يفوتهما من المتعة التي تغترفها الآن لوحدك. ترمي بضع قطع صغيرة من الخبز من شرائح خبز وجدتها على مقعد قريب، هجمت النوارس مطلقة صيحات أعلى من ذي قبل، تعاركت على القطع التي ألقيتها، ثم ابتعدت بعد أن حصل بعضها على القطع ولم تستطع مجموعة أخرى الحصول على أي نصيب. تعود النوارس بعد وقت قصير لتحوّم فوق النهر قريباً منك، تتمنى لو تستطيع تمييز الطيور التي حصلت على الخبز من تلك التي لم تحصل عليه حتى تحاول أن ترمي القطع في المرة التالية باتجاه المجموعة التي لم يحالفها الحظ، وتتساءل أكان الحظ السبب أم أن المجموعة التي حصلت على الخبز كانت متسلطة. تزجر نفسك مرة أخرى عن الفلسفة وعن إقحام أفكارك عن الطبقات والاستغلال على عالم النوارس، دعها وشأنها، واستمتع بالطبيعة. تجلس على المقعد وتلوم نفسك لأنك لم تحمل كوب قهوة لتحتسي قهوة الصباح في هذا الجو المنعش. تمشي بمحاذاة النهر وتنغمس في الأجواء وتنجح لربع ساعة في تصفية ذهنك من التفكير في أي شيء غير التنفس العميق والتأمل منقلّاً نظرك بين سطح الماء والسماء الموشحة ببعض الغيوم والشمس التي تتسلل بأشعتها من بين تلك الغيوم.
تنظر إلى الخريطة الصغيرة التي تحملها، وتحدد طريق العودة إلى الفندق، الطريق تمرّ بمتحف الطباعة على اسم مخترعها يوهان غوتنبرغ، فتقرر أن تستغل الساعة المتبقية بزيارة المتحف ولو زيارة عابرة، وتبدأ بالعودة. تصل المتحف فتجده مغلقاً، تنتبه للوحة المثبتة قرب المدخل، يوم الإثنين يوم عطلة المتحف. تتساءل في سرك “ما المشترك بين متاحف الألمان وصالونات الحلاقة في بلادنا؟”. دائماً تتذكر أنك بحاجة لقص الشعر يوم الإثنين، وها أنت لم تتذكر زيارة المتحف إلاّ هذا اليوم. تضحك وتقرر العودة لتأمل النهر والنوارس لنصف ساعة أخرى، لتشبع جوعك المزمن لرؤية البحر، البحر الذي لا يبعد عن مدينتك سوى نصف ساعة في السيارة، ولكنك لا تستطيع وصوله بسبب حواجز الاحتلال، آخر احتلال على وجه البسيطة. تفكر بأن تبدأ مداخلتك في جلسة اليوم في المؤتمر عن تجربتك هذا الصباح وحظك مع المتحف وحبك للبحر، تتفق مع نفسك على ذلك، ولكن بشرط ألاّ تفكر في الموضوع الآن.