على بعد شهقة من الحياة
أسامة الأشقر | أسير في سجون الكيان الصهيوني المحتل
كأنك في وسط محيط متلاطم من الأمواج فالموت يحيط بك من كل مكان، خوف من الزمان وأكثر منه انحصار المكان فمع كل موجة أو نسمة هواء تضطرب نبضات القلب لديك ويزداد حجم الضغط على صدرك وتبدأ ألوان الحياة تخفت في عينيك تهاجمك الهواجس والظنون من كل مكان ولا مكان للهرب أو الانعتاق من حالة الاستسلام التي تفرض عليك، وما أن يهدأ الموج قليلا حتى تبدأ أعضاؤك المرتجفة بالسكون وتعود لك القدرة على استحضار بعض الأفكار، وما أن تغوص في بعضها حتى يهاجمك الموت والموج مجداد حينها ترى أن قواك قد انهارت كليا وتبدأ بالاعتياد على رائحة الموت تفوح فوق رأسك.
هكذا بالضبط هي مشاعر الأسير المحكوم بالمؤبد، فما بين عدم اليقين أو فقدان الأمل والاستسلام لضغط الحياة وصعوبة الأيام وقتامة المحيط الممتلئ بالصور اليائسة البائسة يجاهد المستحيل آلاف المرات ليشعر نفسه بأنه ما زال على قيد الحياة وبأن الأمور على ما يرام، يحاول كثيرا أن يتخيل قصره الكبير وبستانه المليء بالزهور والأشجار والأنهار من داخل خرم الإبرة الذي يعمل باجتهاد على نحت حوافه للتسع أكثر، وكلما تراكمت الغيوم على عينيه يبتدع وسيلة جديدة لإيهام نفسه بأن المستقبل قادم وأن فرصة الحياة بين يديه، وقد يعمل بطريقة المجهر لتكبير فتات الحياة الذي بين يديه، فما بين الإعتناء بعصفور شارد من ضجر الحياة فرصة إضافية ليرى من خلاله الحرية، وفي جمع بعض التراب عن القليل من حبات الخضار لديه فرصة أيضا ليعتني ببستانه الجميل ويبدأ بالتباهي بهذا الحقل الجميل الواسع. وربما يبقى لأشهر يستمتع ببعض عروق النعنع التي يعتني بها كأحد أبنائه أو أكثر، ويا لها من صدفة ستبقى عالقة في الذهن لفترة من الزمن إذا ما استرق النظر للسماء ليرى البدر مكتمل وبأبهى صوره.
هذه بعض إستراتيجيات الأسير للتغلب على ظنونه الممتدة على مساحة المؤبد اللامحدود، ففي هذا الزمن المكثف تضغط على عروقك ثوانيه باستمرار وتصبح رهينة الأشياء التي تصنعها لنفسك مع كل لحظة تمضي . وفي وسط هذه الأجواء المشبعة باللايقين ونظرات الإنكسار تتدفق موجات الأكسجين على شكل دفقات لروحك المشتتة فيبدأ الأمل ينتعش مجددا، حتى أحاديثك يصبح لها طعم الحياة وشكل الورود، ومع كل شذرة خبر صغير قادم من بعيد تتفتك شهيتك للحديث والتحليل أكثر وأكثر. وفجأة يبدأ كل شيء يتغير فمع كل شربة ماء أو كسرة خبز تحدث نفسك والآخرين عن الحرية وجمالها ومع كل قول يرتبط بموضوع الحرية تنتفض مجددا لإبداء رأيك أو التعليق وهكذا حتى يصبح يومك من ساعة الصباح الباكر وحتى ما بعد منتصف الليل كلها لحظات قابلة لأن تكون هي اللحظة السعيدة المنتظرة، فالخبر العاجل هو الروح التي يمكن أن تهدى للأسير بعد سنوات طويلة من العتمة والموت البطيء وهذا بالضبط ما يعيشه الآن أسرى الحرية في سجون الاحتلال هذه الأيام ” يارب لطفك يا كريم
“.