سُنَّة التَّفقُّـد (٥)
رضا راشد | الأزهر الشريف
إن المرء منا ليغشاه زمان لا يكون فيه بحاجة إلى من يخاطب عقله إقناعا بفكرة أو مدا بمعلومة، بقدر ما يكون بحاجة إلى من يطيب خاطره بكلمة طيبة تمسح براحتها هموم قلبه وأحزان نفسه، فينشرح صدره بعد ضيق، ويتراحب بعد طول اختناق . وفي انشراح الصدر وهدوء البال ما يغني عن تفنيد لألف شبهة ودحض لألف حجة وإزالة لألف اعتراض .
وهذا ما أنا موصٍ به أخي وتوءم روحي عبد الله راتب النفاخ بعدما عرضت للشبهة التي عنّتْ له في مسألة إحداد المرأة على غير زوجها ثلاث ليال فقط ، مجتهدا في إزالة أسبابها، وتوهين أدلتها، وهدم أركانها، وتفنيد مآتيها من نفسه=فأقول :
أخي الحبيب :
لا يغيبن عنك أن القلب مَلٍكُ الجوارح :يأمرها فتلبي، وينهاها فلا حيلة لها إلا أن تمتثل وتستجيب ،وليس العقل بمنجاة عن سلطان القلب بل هو خاضع له خضوع سائر الجوارح والأركان، وإن القلب لآخذٌ بناصية العقل أخْذَ المرء بزمام دابته ينثني بها ذات اليمين تارة وذات الشمال أخرى فلا يكون لها مندوحة عن الاستجابة .ولهذا، فلئن كان فيما خططتُه إليكم من قبلُ مخاطبةً لعقلكم، ففيما سأخطه الآن مخاطبة لهذا الآخذ بناصية العقل ؛القلب.
ألا فلتعلم أخي: أنه لا قيمة لحكم يصدره العقل ما لم يكن له من القلب نصير وظهير ، فإذا اختلفا لم يبق للعقل مجال ولا للتفكير مقال فإذا أحب القلب أحال حبُّه القبيحَ جميلاً وإذا أبغض القلبُ صيَّر بغضُه الجميلَ قبيحًا .
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
فهل كان العيب أو المساوئ إلا حكمَ العقل؟ وهل الرضا والسخط إلا فعلُ القلب ؟ فانظر كيف يتغلب فعل القلب على حكم العقل تغافلا عن عيوبٍ، رضاً؛ أو إبداء لمساوئ،َ سخطا وغضبا ؟
فإذا امتلأ القلب ببرد اليقين وأمسك بزمام العقل، عاد العقل ولا أثر فيه لشبهة، ولا رآئحة فيه لخاطر، ولا مكان فيه لاعتراض.
فلئن كنتَ-أخي- قد أخذتَ لعقلك حظه من كلام العلماء-ولستُ منهم- إزالة لشبهة، أو دمغا لحجة، أو قطعا لدابر اعتراض= فلا ينبغي البتة أن يكون حظُّ قلبك أقلَّ من حظ عقلك .
فَلُذْ بباب الدعاء تضرعًا إلى ربك مولاك أن يجنبنا وإياك سوء العواقب ووخيم الفتن فقد قال ربنا:《قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم 》. وفِرَّ إلى جنان الذكر؛ فبذكر الله تطمئن القلوب وتنشرح الصدور 《ألا بذكر الله تطمئن القلوب》. وأَنِخْ قلبك بأعتاب الصلاة؛ فأعن الخير على الشر في النفس بكثرة السجود، واجعل من كتاب ربك صاحبا يلازمك في ليلك ونهارك وحلك وترحالك .
ولئن كنتُ موصيك بالدعاء، فليس من مقتضى المحبة الاكتفاء بالوصية دون رفع أكف الضراعة إلى الله أن يجنبني وإياك كل سوء في الدنيا والآخرة وأن يعافينى وإياك وكل مسلم في الدين والدنيا والآخرة … إنه بكل جميل جدير .
وعساي أكون قد قمت ببعض حق الإخوة فيما خاطبتُ به عقلك وفيما خاطبتُ به قلبك ..ولا أراني إلا مقصرا لكن رجائي أن تجبر بحسن خلقك تقصيري
والسلام.