شهيدة أخرى في الثَّلاجة
سهيل كيوان | مجد الكروم – فلسطين
لا يستطيع الاحتلال معاقبة الشَّهيد بتعذيبه الجسدي أو النفسي، بأي شكل كان، فيلجأ إلى تعذيب ذويه لزيادة معاناتهم والإمعان بها منذ لحظة استشهاده. فقد يلي الاستشهاد قرار بهدم البيت وتشريد الأسرة، ثم احتجاز الجثمان ومنع دفنه، فلا يتيح قُبلة على جبين ووداع ابنهم، ويصبح الحصول على قبر لزيارته، أمنية غالية يتمناها ذوو الشهداء المحتجزين. قالت والدة شهيد، “إذا مِتُّ فلا تدفنوني قبل دفن ابني”. وقال شيخ في الثمانين من عمره: “أشعر بالتّقصير تجاه ابني، لأنني لا أستطيع تحريره من الثلاجة ودفنه في مكان دافئ”.
يوم الأربعاء الماضي 16حزيران/يونيو الجاري انضم جثمان الدكتورة ميّ عفانة إلى قائمة المحتجزين في الثلاجة. ميّ ابنة التاسعة والعشرين عاماً، حاصلة على الدكتوراه في مجال الصحة النفسية من جامعة مؤتة الأردنية، زوجها مُدرّس، ولهما طفلة تبلغ خمس سنوات من العمر. انضم جثمان الدكتورة ميّ إلى ثمانين جثماناً آخر محتجزة منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2015، إضافة إلى 253 من جثامين الشهداء العرب والفلسطينيين في مقابر الأرقام، ويقال إن العدد أكبر بكثير من المعلن عنه.
سيرة حياة الشهيدة مَيّ ابنة بلدة أبو ديس، وطموحها للتعلّم واجتهادها لنيل الدكتوراه، ثم ظرف استشهادها وتوقيتهن يضع رواية الشرطة وجيش الاحتلال في موضع الشك، فقد زعموا بأنها كانت تنوي تنفيذ عملية دهس وطعن على حاجز قرية حزما شمال القدس، كيف يمكن تنفيذ عملية دهس وطعن في الآن ذاته؟ فالدهس يتطلب قيادة السيارة، فكيف يمكن أن تدهس وتطعن في الوقت ذاته على حاجز فيه عدد من الجنود المتحصِّنين؟! الطعن على الحاجز، هو عملية شبه مستحيلة، لأن السّائق ممنوع من الهبوط من السيارة أصلا، وأيُّ هبوط من دون أمر من جنود الحاجز يعني إطلاق النار الفوري، إلا أن محاولة الدهس أو الطعن أو كليهما، صارت الوصفة الأسهل لتنفيذ الإعدام الميداني. قد يحدث الإعدام، لمجرَّد الشك في نوايا الفلسطيني، وقد يكون نتيجة حركة عفوية عبَّر فيها عن اشمئزازه أو غضبه من الجنود، فيأتي الرَّد الجبان بقتله، وقد يكون بهدف سياسي ليحققه مستوطن أو جندي لئيم، وقد يكون الشهيد أسيراً مُحرَّراً، أو ناشطاً ضد الاحتلال ومحرِّضاً ينتظرون الفرصة لإعدامه.
في الثاني عشر من الشهر الجاري، أي قبل استشهاد ميّ بأسبوع، أُعدمت ابتسام الكعابنة، وهي من مخيم عقبة جبر، وصلت إلى حاجز قلنديا جنوبي رام الله، وهناك أطلقوا النار على ساقها ثم على بطنها بعدما كانت مصابة وعاجزة عن الحركة، وتركوها تنزف مانعين إسعافها حتى ارتقت شهيدة، ثم احتجزوا جثمانها.
بحسب والدها، كانت الدكتورة ميّ مريضة في القولون، وكانت قد استلمت أسطوانة تحوي نتائج فحوصاتها من مستشفى المقاصد في القدس، وكانت في طريقها لتسليم نتائج الفحوصات إلى طبيبها في رام الله، إلا أنها أُعدمت على حاجز حزما شمالي القدس. ميَّ كانت ضعيفة جسدياً ومرهقة، ونسبة الهيموغلوبين منخفضة جداً في دمها، ورواية أنها كانت تَهمُّ في عملية طعن هي تبرير لجريمة قتل بدم بارد. من عشرات الأسبقيات التي يعرفها الجميع، مثل قتل الشاب ذي الاحتياجات الخاصة إياد الحلاق في القدس في 30 أيار/مايو 2020، تضع كل الروايات الإسرائيلية حول ظروف استشهاد الكثيرين من أبناء شعبنا، في موضع شكٍّ وتساؤل. إضافة إلى هدم البيوت وتشريد الأسر والعذاب النفسي للأهل، تصبح أمنية الأهل، استلام جثمان ابنها لدفنه، وأن يصير له ضريح يزورونه، إحدى والدات الشهداء تقول” أرتجف كلّما فتحت الثلاجة في بيتي” فابني في البرد”. في حديث مع محمد عليان ابن القدس والد الشهيد بهاء عليان المُحتجز جثمانه منذ عام 2015، والناشط في النضال لأجل تحرير الجثامين، قال لي: “هناك سبب إضافي للاحتجاز، ليس فقط التعذيب النفسي للأهالي، فهم حين يحتجزون الجثامين يهدفون كذلك إلى إشغال الأهل في معركة استعادة الجثمان، فلا نحقق أو نستقصي الظروف التي وقع فيها الإعدام، فتضيع حيثيات الجريمة”، ثم تساءل قائلا: محاولة الدَّهس والطعن هي روايتهم فأين روايتنا نحن؟.
يبدع الاحتلال في ساديته وهمجيته، فهو يشترط لتسليم الجثامين – إذا وافق – الإسراع في الدفن ليلا تحت حراب جنود الاحتلال، وبمشاركة عدد قليل من أفراد العائلة، وعدم إجراء أي تشريح للجثة التي تكون مُجمَّدة، ويحتاج تشريحها إلى وقت طويل. إضافة إلى جرائمه في منع لمِّ شمل العائلات الفلسطينية والإمعان في تشتيتها فوق الأرض، فهو في الوقت ذاته يمنع لمَّ شَملِ الشهداء بذويهم، ولمَّ شملهم مع ثرى وطنهم، كي ينعموا أخيراً في حضنه ودفئه.