ستبكين أكثر
بقلم: خالد جمعة
ستبكينَ أكثر أيتها البلادُ، ستودعينَ شهداءَ من لحمٍ ودمْ، سترثينهم بغضبٍ حالمٍ وتزرعين زيتونةً لكلّ اسمٍ مرّ على صباحاتِكِ منتشياً بانتمائه الصلب، سترددين أسماءهم في الأغنيات، وستبكين أكثر حين تعجز ذاكرتُكِ عن تعدادهم، ستبكين حين يضيقُ النهارُ بسكّانه المؤقتين، ويتفسّخُ خشبُ المراكبِ لتتسرّبَ منه الحكاياتُ كما يتسرّبُ عصفورٌ من ذاكرةِ شجرة.
///
ستبكينَ أكثر حين يحيطُ السجنُ بحماماتٍ بعيدةٍ وينتشرُ ظلُّ الليلِ على الحائطِ، الحماماتُ لن تعرفَ الفرقَ بين لون العسكرِ ولون الحنين، ستهدلُ كعادتِها، وتصوِّبُ مناقيرَها نحوَ الفتاتِ، وستفسّرين هديلَها بطريقةٍ خاطئة، ولن يُغضِبَ هذا الحمامَ الذي سيفسّرُكِ كمعبرٍ إلى الدفءِ، ستبكينَ ولن يكترثَ الحمامْ.
///
ستبكين أكثر، وتختبئين في حِجرِ أمي التي كانت تلمُّ المساءاتِ عن أعيننا كي لا نصاب بالحنين في الحلم، ستبكين أكثر حين ترينها ما زالت تقشِّرُ الغولاتِ عن أفكارنا وكأننا ما زلنا في الخامسة، ستبكين وتتمنين لو كنتِ تلك المرأة التي رعت نفسها بنفسها مثلَ شجرةٍ وحيدة.
///
ستبكين أكثر حين يزهر ذاتُ الجسدِ على الجلجلة من جديد، ويبكي، بقدمين حافيتين وبطنٍ خاوية، كل هذا الوقت والجسدُ على الصليب، ولم تنجُ زغلولةٌ واحدةٌ من الذبحِ على مائدة العيد؟ ستبكين أكثر وتبحثينَ عن بقايا روحِهِ في خشب الصَّلبِ وتجدين دمعاً أخضرَ قائماً في المكانِ معلَّقاً في الهواء، ستبكين أكثر وتنادي: يا مريمُ، خذي قطعةً من أفكارِهِ وضعيها في إناءٍ بتربةٍ قليلةٍ ودمعتين من ماء كي لا يلقِّحوا موتَهُ بكتابٍ لا يعرفُ أحدٌ من أينَ أتى، ستسمعين بكاءً مشابهاً وتتساءلين إن كان صدىً هذا الذي يشبهك.
///
ستبكين أكثر من جرحِ المرأةِ التي لم يعرفْ أحدٌ من حفرَ اسمَها على سنديانة البيت، السنديانةُ ليستْ وحيدةً، لكنّها لم تكلِّمْ أحداً في مئةِ عام، المرأةُ محفورةٌ هناكَ قبلَ اللغةِ ربما، تكبرُ السنديانةُ ويكبرُ الاسمُ، باسم البلاد العظيمةِ التي لا تزيدُ عن قلبٍ في دفترِ رسمٍ، تجلَّتْ فيه هدايا الرّبِّ على شكلِ حكاياتٍ ومعاركَ من فولاذٍ لا تخدشُهُ لغةٌ ولا تثنيهِ الأسئلة، والمرأةُ التي لم يعرف أحدٌ من حفر اسمها على سنديانة البيت، ترشُّ الوقتَ في الصباحِ، وتلمُّه في العتمةِ كي تريحه من مضيّه نحو الأبد، ستبكين أكثر حين يعرُجُ الوقتُ ويبدأ في العودةِ إلى بداياتِهِ البريئة.
///
ستبكين أكثر، وسنبقى نحنُ هنا نمدحُ الظلَّ، نشكِّلُهُ تماثيلَ كي نجد ما نقدِّسه دونَ أن تُلزمنا قداسته بشيء، نمدحُ الظلَّ حتى في العتمةِ التي تأكل الظلال، نمدحُ الظلّ الذي يخلّفه الأموات بعدَهم، بعد أن يموتوا يصبحون أصدقاءً رائعين، يصبحونَ فريدين لم يجُد الوقت بمثلهم، فنتشبث بظلّهم ونمدحه، نمدحه، نمدحه، إلى أن نصدّق أن كل هذه الظلال أمم مثلنا، فنروضُ عواطفها كما شئنا ونتوهم الخلود…
أما أنتِ
فستبكين… ستبكين أكثر