التأصيل الحضاري.. بين الفرد والمنهج (2)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

وقد قدر لما سبق من الحضارات البائدة أن تكون كينونتها واستمراريتها بقدر ما حوت من طاقة مستلهمة من عنصرها البشري، وما اجتهد فيها البشر (الغير معقولين) كي يطيلوا أمدها التاريخي.. فإلى أي مدى تستمر حضارة؟ لا يمكن مع العنصر الزمني مهما اجتهد البشر أن يضمنوا بقاء حضارة إلا بقدر ما تمدها طاقتهم، فيكون بقاءها ببقاء شخوصهم أو أفكارهم قدر ما استطاعت هذه الفكر أن تخترق حجب الزمن، وما استطاعت الفكرة التالية أن تمدها لتبقى من وسائل العلم والأدب والفن والفلسفة والنتاج العقلي على اختلاف مشاربه.. ثم ما تلبث كما قال (مفلسف التاريخ) ابن خلدون أن تندثر بعد التراجع والتأخر حين يدهمها عامل الزمن، وحين لا تكون قادرة على السير بموازاته أو استباقه.

أما الحضارة الإسلامية فهي كما ذكرنا ليست ذات عنصر بشري إلا في التناول والتطبيق، أما في الأصول والمنهجية فهي إعداد إلهي رباني محفوفة محفوظة بعين الحق، كما هو محفوظ بها أهلها وبمنهجها إن هم أقاموه على الوجه الذي رضيه لهم منزل المنهج؛ ثم ينتقص من تمكينهم بقدر ما يغفلون أو يتهاونون أو ينتقصون من قوة الأخذ، والاستمساك بشرائع الوحي ,, هنالك يسري عليهم ما سرى على الأمم من قبلهم وما يسري على من بعدهم من حتميات الكون والزمان، وعوامل النهوض والانهيار.

وقد أكد لهم هذا من خلال الوحي المنزل أنه ثمة فارق أكيد بين قدسية المنهج وبشرية التطبيق، وأن للثانية أسباب وسنن وحتميات تسري على البشر جميعهم من خلال الاجتهاد والنكوص، فالسنن لا تعرف المحاباة ولا المجاملات حتى مع أصحاب المنهج العلوي إن هم أهملوا أوقصروا .. وقد تجلى ذلك في بدايات حوادث الدعوة وجهادها وإخلاص أصحابها، وكذلك مع وجود الرسول الكريم بين ظهرانيهم في غزوة أحد ، حين تحقق النصر بعدما بذلت أسبابه المادية والمنهجية، فلما تولى الأصحاب إلى شيء من متاع الدنيا كان الجزاء الإلهي سريعا، وكان تحقق حتميات السنن قريبا، لكيلا يظن ظان أن ثمة محاباة أو مفاضلة لأصحاب المنهج في ظل التقصير.

“وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)”[آل عمران].

إن عصمة المنهج لا تعني بحال عصمة الأتباع إلا بقدر الالتحام والاتحاد بهذه العصمة العلوية والاقتراب منها، فأما إذا حدث انحراف عن الصراط وتنكب عن السبيل، وأغفلت كليات المنهج وجزئياته، وجعل علمه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، وحرف الكلم عن مواضعه،  وحرف الكلم من بعد مواضعه.. واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.. فإن هذا إيذان بالزوال، وإعلام بالنهاية وتخلف التمكين، وأفول شمس هذه الحضارة وغوار نجومها.. ذلك ما جرت سننه على الأمم من قبلهم والتي عدد لهم القرآن ذكرها؛ (بنو إسرائيل)على رأسها وهم جل حديث القرآن وأمثاله.

وقد أخبرهم الهادي صلى الله عليه وسلم بتحقق مجريات الحوادت، ووقوع السنن عليهم بما يسلكون من سبل الأمم من قبلهم “عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ، لَتَبِعْتُمُوهُمْ “، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ” فَمَنْ؟ “ (مسند الإمام أحمد).
“عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ»[صحيح البخاري: باب ما ذكر عن بني اسرائيل].

لقد أكد القرآن رغم هذه المكانة التي أولاها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التعظيم والتوقير لحامل الرسالة ومبلغ المنهج“إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) “[الفتح]، أكد على انقضاء هذا المبلُّغ وحتميتة البشرية التي اقتضت مثالا عمليا لتطبيق هذا المنهج، لكن هذا المنهج لا يكن إلا امتدادا للبشرية جميعها فلا يفنى بفناء مبلغه ولا ينقضي بقضائه.. وقد ظل يؤكد على هذا حال حياته وقبل موته حتى يكون الأتباع على بينة من هذا فلا يصرفهم رحيله ولا مفارقته عن القيام بمنهجه واستكمال ما بدأ، ولا التقاعس عن تبليغ الرسالة التي أنيط بهم حملها.. ولا تثنيهم الفجيعة بموته عن الضرب في أصقاع الأرض وبقاعها لذلك.. “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)”[آل عمران].. “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)”[الزمر].

وقد وعى أبوبكر رضي الله عنه هذا المعنى دون غيره، حتى ذكرهم به عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أكد على إنفاذ بعث أسامة وقتال المرتدين رغم معارضة الصحابة رضي الله عنهم، حتى لا يكون أول عهدهم بعد موته مخالفة أمره أو الاجتهاد فيما شرع في عمله، وليقطع الطريق على كل ذي عقل أن يعمل عقله فيما أمر به صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يكون فيه مجال للاجتهاد وإعمال العقل فهذا مما أمر به من (الاستنباط والاحتكام ) إلى المنهج وأصوله.

هكذا يتجلى مدلول هذا المفهوم الرباني “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”.. والإخراج هنا بمعنى (الابتعاث والتكليف) كما ذكر (ربعي) رضي الله عنه”لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدينا إلى سعة الآخرة،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”..فهي أمة مبتعثة باستكمال رسالة نبيها وتبليغها إلى أهل الأرض بهذا المنهج الرباني الذي خلف.. وقد شرفوا بأن تكون لهم مهمة الأنبياء من قبلهم، من تلقي العلم وتبليغ الوحي.

“ولكن لم يكن انحطاط المسلمين وزوال دولتهم وركود ريحهم ــ وهم حملة رسالة  الأنبياء، وهم للعالم البشري كالعافية للجسم الإنساني ــ انحطاط شعب أو عنصر أو قومية، فما أهون خطبه وما أخف وقعه، ولكنه انحطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح، وانهيار دعامة قام عليها نظام الدنيا والدين”. (أبو الحسن الندوي ــ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى