الطابون
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
باب الطابون هناك دكّة طينية ترتفع عن الأرض يسمونها (قصة)، وفي داخل الطابون قصة أخرى، وكأن الأولى لجلسات الربيع والصيف، والثانية شتوية بامتياز، إن المتأمل في حكاية قصة الطابون، يجدها أقرب إلى ديوانية، تتسع لنساء الحارة، كما يمكنها أن تتسع لبعض الرجال أيضاً، خصوصاً إذا تبعتها مساحة أخرى…
على القصة تنسج ألف حكاية وحكاية…
(تقلع) أم محمد طرحة خبز ساخن من قحف الطابون، أربعة أرغفة مقمّرات، وتنزع عنها الرظف (قطع صغيرة من الحجارة)، وتأتي ابنتها بصحن من الزيت والملح والزعتر… وحبات من البندورة البربندية الحمراء… وفحل من البصل… وتكون وجبة تتولاها ثلاث نساء، والحج سميح المزيون… يقدّون الخبز الساخن، ويغمسّونه بالزيت والزعتر، يشرشرون بالزيت ليصل مرافقهم، ويمسك كل منهم زر بندورة يفغمه، فيتمرد ماء الزر، وينطلق كشرار الحدّاد في الفضا… الحج سميح يدق فحل البصل بقبضته، ويقاسم اللبّ النساء، طلباً للعدالة، وتجنباً للأنانية البغيضة…
على قصة الطابون تنسج ألف قصة وقصة… إنها محطة إعلامية حوارية، حيث تتجمع أخبار البلدة كلها على القصة، ويتم النقاش حولها، وتبدي كل امرأة أو رجل رأيه، ثم يذهب كل فريق بما اكتسب من أخبار… وبذا يشبعون فضولهم الإعلامي، فعلى القصة يعرفون،
(فيد عفيفة) مهرها، وسبب إفلاس (الخال أبو الخير)، ومراحل طلاق ربيحة من زوجها الونيس… ويعرفون محصول أهل البلدة من غلالهم، وبقرة فالح (إعطيرة)، أعجلاً ولدت أم عجلة؟… ومتى سيتزوج المبروك صالح… على القصة مطبخ إعلامي رهيب…
في الشتاء، تنقع النساء المعدّلات القش تحت مزاريب المطر، حتى يطرى القش ويلين، ويتلوى بأيديهن الماهرة، فينسجن (يبدين) صواني القش الملونة، والجونة، والقبعة، والترويج… عمليات وعمليات تجري في جو دافىء على قصة الطابون الداخلية، ويتناوبن الحديث أثناء العمل، وحتى لو راود إحداهن ترويدة، أو موالاً غنته… وردت عليها الأخريات…
على قصة الطابون، تنتظر المرأة طنجرة الطبيخ، التي وضعتها في قحفه، وتنتظر حبات الجزر والبطاطا التي دفنتها في ساسه… حتى إذا اعتقدت المرأة بأن طبيخها نضج… فتحت طنجرتها، وإذا اللحم قد ذاب في الأرز والمرق والخضار، نضج على شبه نار… أو على نار في الظل… ثم قحّرت المرأة عن البطاطا والجزر، وتناولتها مشوية، طرية… يأكلها صاحب الأسنان، وصاحب الطارة، ومن لا أسنان له.
يحتاج الطابون ترميماً وصيانة كل عام، حيث يذيب المطر طينه، ويمكن أن تذوب قصته الطينية أيضاً، فتسرع النساء عند أول مطرة (مطرة المعدّلات) إلى خلط الطين بالتبن، ويتم تطيين واجهات الطابون، وتعزيز بنائه… بعد تجارب كثيرة، اجترحت النساء تصميم السقف المدبب للطابون، حيث يصار إلى بنائه عدة مداميك من الحجارة والطين، ثم يعرش عليها أخشاب، بينها قش ونتش، ويطيّن حولها… فيكون سطح الطابون مدبباً… في الأسفل أسطوانة، ويبدو هرمياً في الأعلى، وهذا يمنع استقرار الماء على سطحه، مما يمنع دلف الماء… ويعزز البناء… آه على أيام الطوابين… وسماء البلدة وهي معسكدة، لكن الخبز لذيذ… لذيذ… شهي!