إبراهيم خربوش .. حياة نيرة ورحيل هادئ

بقلم: د. علي الحسيني | مصر

كنت أسمع باسم عمي الحاج “إبراهيم خربوش” من أفواه العارفين بالكتب وطبعاتها دون أن ألتقي به شخصياً، حتى جاء يوم من الأيام التقيته فيه في إحدى مكتبات الأزهر العامرة ضيفاً عند أحد أصحابه الكتبيين المشهورين، ولفت نظري ساعتها وأنا أتجول في هذه المكتبة أن عينيه لا تكاد تنزل عن رؤية الكتب، شعرت من نظراته إليها أنها تدل على أن بينهما مشاعر وأحاسيس وقصصاً وأخباراً لا يمكن أن توصف.
شيخ الكتبيين عمي “إبراهيم خربوش” شخصية من الشخصيات الكتبية الفريدة التي عرفتها، فهو وراق أو كتبي مصريّ تخصص في اقتناء الكتب النادرة، وكان يتنقل بين المدن المصرية في سبيل ذلك، ويطوف ببلدان العالم المختلفة بحثاً عن ضالته، وكان على صلة وثيقة بالعائلات في مصر التي ربما يجهلون قيمة المكتبات، فحفظ الله على يديه كثيراً من مقتنيات العلماء النفسية الذين فارقوا الحياة، فكان يقتني من الورثة كل مخلفات الأدباء والعلماء الراحلين من صحفٍ ومجلاتٍ وكتب ومخطوطات، ويشحن كل هذه النوادر إلى بيته.
كان المرحوم الراحل يقيم بالحي الزينبي العريق الذي تفوح منه روائح الأولياء والصالحين العطرة، وكانت مكتبته في شارع ضيق قبل مسجد الخلوتية ميدان أحمد ماهر في شارع بورسعيد الشهير بحي السيدة زينب -رضي الله عنها-، وفي هذا المكان بالتحديد كان ينزل عليه الكثير من الضيوف من داخل مصر وخارجها، ويلتقي العاشقون للنوادر القديمة في بيته، فهو مأوى أفئدة كثيرين من محبي التراث، وفي مخزنه ومكتبته ترى بعينيك ما تسمع عنه من النوادر التي أجزم أنك لن تجدها إلا عنده.
هذا الرجل الفريد -لمن لا يعرفه- أحيا الله به سوق الكتب، وأنقذ الله على يديه كثيراً من كتب التراث بطبعاته العزيزة النادرة التي كان مصيرها المحتوم الإهمال نظراً لأن أغلب أبناء العلماء والأدباء انصرفوا عن العلوم الشرعية إلى العلوم الدنيوية، مما جعل تحت نصب أعينهم إذا ما مات والدهم أن يسعوا للتخلص من مكتبته بأي وسيلة ممكنة، وقد يتخلصون منها -لجهلهم بقيمتها- بما يزدريها، فيأتي شيخ المدرسة الخربوشية وطلابه يتلقونها بحفاوة بالغة، فحفظ الله على يديه بذلك كثيراً من المكتبات، وله حكايات وقصص وأخبار مع عالم الكتب والمكتبات ينبغي أن تدون.
كان عمي الحاج “إبراهيم خربوش” كريم اليد سخيّ الطبع، وله مع الطلاب الوافدين على القاهرة من الأرياف معاملة خاصة، فكان خير معين لهم في اقتناء كثير من نفائس المطبوعات، ولربما تشتري منه على أجل، فلا يتضجر أو يسأم أو يعاملك معاملة سيئة، ويرضى من الطالب الريفيّ بما يكون معه، وقد يهدي لك بعض النفائس، ولا يملّ من سماع العلم وأخبار العلماء ويسجل تلك الفوائد بحرص واعتناء حتى ولو كانت عمن هو في عداد أحفاده، وآخر لقاء جمعني به كان في بيت الأستاذ الوجيه الشيخ محمد بن عبد الله الرشيد بمدينة “الرياض” ولاحظتُ أنه يكتب كعادته في دفتره الخاص كلّ ما يدور في الجلسة من أخبار وأحداث جديدة أو غريبة.
وممن كنت أعرف أنه على صلة وثيقةٍ به صاحبنا العالم المفتي العبقريّ الدكتور أحمد ممدوح الشافعي -أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية العامرة-، وهو من عشّاق الكتب المعتنين بنفائس المطبوعات ونوادر الطبعات، ومن المترددين عليه بصفة مستمرة، فطلبتُ من فضيلته رغم انشغالاته وارتباطاته المتعددة أن يكتب لي شيئاً عن الحاج “إبراهيم خربوش”، فتفضل مشكوراً وأرسل لي هذه الكتابة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد:
فقد عرفت الحاج إبراهيم خربوش قبل قرابة ٢٥ سنة بواسطة شيخنا الشيخ علي جمعة، وقد صحب هو شيخنا ما يزيد عن أربعين سنة، وكان يحكي لي دائماً مواقف وأشياء عنه أنا شخصياً لا أعرفها، وبحكم مهنته التقى بعلماء كبار وأعلام ومشاهير وتحصل عنده من أخبارهم وحكاياتهم وفوائدهم ما كان يتحفني به دائماً كلما هاتفته أو زرته في بيته أو مخزنه.
وكان يمدني بالنوادر ويبادرني بها، سمحاً طيباً لا يدقق معي كثيراً في الأسعار ولا حتى في أوقات السداد ويترك الأمر لي ولظروفي.
وكان طيباً موصوفاً عند الناس بسرعة غضبه وسهولة رضاه وفيئته في نفس الوقت.
وكان عالماً في مهنته مرجعاً عظيماً لطلاب الفائدة في استفهاماتهم فيما يتعلق بالمطبوعات القديمة من معلومات حول العناوين وتاريخ الطباعة وعدد مرات الطبع وأماكنها وأجودها، وفي المجلات مثلا: كم سنة صدرت وعدد أعدادها، ومتى بدأت ومتى توقفت بشكل مؤقت ومتى توقفت بشكل تام؟
وبوفاته انقض ركن ركين في عالم الكتب، وقد تخرج به تلامذة في هذا المجال هم الآن من كبار الكتبية في مصر.
وقد شاء الله أن يقبضه في شهر رمضان حيث تتعاظم الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وأن يكون سبب موته مرضاً نرجو له به منزلة الشهادة، فنسأل الله له المغفرة والرحمة.
هذا آخر ما كتبه لي فضيلة الدكتور المفتي أحمد ممدوح الشافعي عن الحاج خربوش، وأما على المستوى الشخصي فقد حزنت كثيراً على وفاته، وحزنت أكثر حينما علمتُ بوفاته عن طريق الصدفة بعد فترة من وفاته، وهو إن دل فإنما يدل على حالة التقصير الراهنة مع هذا الرجل وغيره من الفضلاء ممن أثروا حياتنا العلمية بكثيرٍ من الإنجازات.
إنّ الحاج “إبراهيم خربوش” من الشخصيات الفريدة التي لا تتكرر، ومن الأمثلة المشاهدة التي اتخذت لنفسها منهاجاً خاصاً تسير عليه في حياتها دون أن تلتفت إلى الصعاب التي تواجهها، وقد أسس مدرسة كتبية أرجو أن تستمر ويؤرخ لها ويترجم لأربابها، ولئن كنّا مدينين للعلماء والأدباء الذين أثروا حياتنا العلمية والأدبية بكثيرٍ من المؤلفات والتحقيقات والجهود فنحن مدينون لإبراهيم خربوش ومدرسته الكتبية بحفاظهم على تراث الأمة النفيس، والتعرف على جهود العلماء في جانب التأليف من خلالهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى