الاعتدال والاقتصاد في معاني القرآن الكريم

بقلم الأستاذ الشيخ طاهر العلواني / مصر

القرءان جاء على غاية الاعتدال ونهاية الاقتصاد في معانيه، وقبل الشروع في المقصود، ينبغي أن تعلم أن بعض المواضع جاء فيها المعنى من باب المحال، وهذا من التهكم كالتعجيز أو المبالغة في الثبات أو الامتناع، ونحو ذلك.

فمن التعجيز قوله تعالى “وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم”، يعني سنبعثكم ولو كنتم كذلك، فكونوا إن استطعتم.

ومن المبالغة في الثبات قوله سبحانه “قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين”، فهذا معناه: هو ليس له ولد، ولكنه لو كان له ولد، سنعبد هذا الرب، فاغسلوا أيديكم منا.

ومثله قوله عز من قائل” وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين”، فلم يقصدوا الشك، وإنما أرادوا: ولو كنا نحن على ضلال مبين وأنتم على هدى فإنا راضون بما نحن عليه، فاتركونا.

ومثله قول الكفار “أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه”، ولم يعلموا أن أحدا رقى في السماء يوما، ولكنه تعجيز ومبالغة في ثباتهم على أمرهم.

وقوله جل ذكره “ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون”، فالأنبياء لا يجوز عليهم الكفر، ولكن المعنى: هؤلاء أصفيائي من خلقي، ولو أشركوا بي لحبط عملهم ولأدخلتهم النار، فكيف بمن سواهم؟! وهذه مبالغة في الزجر والوعيد.

ومن المبالغة في الامتناع قوله عز اسمه “لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط”، فهذه مبالغة في التهكم، وأن الجنة حرام على كل كافر.

ومن هذا الضرب قوله تعالت عظمته “استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم”، فليس المراد أنه لو زاد على السبعين سيُغفر لهم، بل هذه مبالغة، والعدد غير مقصود، كما تقول لصاحبك – ولكما صاحب لا يرجع عن رأيه -: لو كلمتَه مئة مرة فلن يرجع، فأنت لا تقصد أنه لو زاد على المئة سيرجع، بل هذه مبالغة والعدد غير مقصود.

واعلم أن أول ما ينبغي لك أن تعرفه أنّ القرءان نزل على وجه الإعجاز للعرب جميعا؛ خطيبهم وشاعرهم ومن هم دون ذلك ممن إذا ألقي عليه الذكر أقرّ بعجزه، وإن لم يعلم سبل الكلام عند الخطيب المفوه أو الشاعر المفلق.

فليس فيه شيء من الخيالات التي تبعث النفس على الإحجام عن الإذعان له، ولا العبث والحشو الباعثان على الإعراض عنه، بل كل ما فيه من الأمثال والاستعارات ووجوه البيان آتٍ على أبلغ ما يكون عليه الاعتدال. فلا إسراف يؤدي إلى إنكار، ولا قصور يدعو إلى إعراض.

فإذا تأملت نحو قوله تعالى “فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا”، ونظرت في قول أبي نواس:

وأخفت أهل الشرك حتى إنه**لتخافك النطف التي لم تخلقِ.

ظننت أن لا فرق بين المعنيين من جهة المبالغة. والحق أن الفرق واضح؛ فيوم القيامة يجعل الولدان شيبا حقيقة، كما تذهل فيه كل مرضعة عن رضيعها وقد ألقمته ثديها، إذا رأت أهوال ذاك اليوم، أما قول أبي نواس، فخيال محض؛ إذ كيف تخافه نطف في أصلاب آبائها؟ هذا غير متصور. وإذا تأملت قوله سبحانه “ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى”، ونظرت في قول أبي الطيب:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي**وأسمعت كلماتي من به صمم.

ظننت أن كلا القولين مبالغة، وليس كذلك. بل الكلام في القرءان حقيقة، وهو قول ثقيل، ووحي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله حقيقة، ولو كان لكلامٍ أن يسمعه الميت فيقوم من موته لكان هذا القرءان. وأما قول المتنبي فمبالغة ظاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى