فوق البيعة

شوقية عروق منصور | فلسطين

( قصة قصيرة )

عايرها بكلماته التي تنقط السم ، يحرق ما تبقى من الجسور الزوجية ” أنت لا شيء .. أنت واحدة فوق البيعة ” .. انطفأت في داخلها الأضواء ، وانسابت العتمة من سنوات عمرها المتعب ، وصبت في عيون زوجها الذي يراها دائما ناقصة ، فارغة من شيء ما ، فهي لا تملك الكمال الأنثوي المطلوب في نظر الرجل ، ومجتمعها يعتبر الكمال الجسماني شهادة وجود وقيمة خاصة للمرأة ، فكيف وهي عصير عاهة قد عصرت عينها وحولتها الى بقعة مغلقة على نور خفيف، في وجه جاف ، مشدود بالخوف ، يشعر أن اغتصاب ابتسامة هروب من المواجهة ؟!

زوجها يعايرها بعينها ” العورة ” كلما أراد أن يحرك النقص في داخلها يمسك معلقة التشويه، ويحرك أنوثتها المطعونة في قاع طنجرة الواقع ، يعايرها ، وضحكته تسبق صورة الاستهزاء التي يفرضها على الأجواء ، يناديها بأعلى صوته ” يا عورة ” انه يتمتع بمعايرتها أمام الناس، من ضيوف وأقارب وجيران وأبناء، حتى عابري السبيل يسمعونه و يعايرها ، انه دائماً يذكرها بعجزها فتصمت، لأن سيوف ردها غير حادة، أو تكسرت على رصيف الحياة الزوجية.

تذكر ان والدها أسقط آخر ورقة تنازل ورجاء أمام الجاهة ، التي جاءت تطلب ابنته الصغرى، كان دائماً في حالة تردد ، شعاره أي مشكلة يقع فيها يجب أن يأخذ بتحليلها وفحصها وتفكيك خلاياها حتى يجد لها الحل، لكن الحل أيضاً يرشق خوفه بعدم الثقة ويدفعه للتردد أكثر، وعدم اقتحام الحل بجرأة رجل يثق بنفسه ، لكن الآن يجب أن يستغل هذه اللحظة ، فالحياة فرص ولحظات ، أمها قررت أن تجد طريقاً حتى تتخلص منها ، فهي شابة جميلة لكن عينها ” كريمة ” كانت أمها تقول ” كريمة ” تخفيفاً من وقع ” عورة ” على نفسيتها ، لم يسألها أحد ، فهي لا رأي لها .

أمها قررت أن ترمي الشبكة أمام عائلة عريس ابنتها الصغرى، فابنهم الثاني كسول لا يعمل وحياته فاشلة، فلماذا لا تستغل فشله ، تخيط عين ابنتها المفقودة على قماش كسله ؟! هي تربح زوجاً لابنتها ، وهو يربح زوجة دون مهر وتوابع العروس ، فهي ستتكفل بكل شيء ، الآن على زوجها الحزم والاقتحام مهما كانت النتائج؟! .

وحانت الفرصة ..نادى والدها على والد العريس ، لف ودار ، أقنعة بأسلوبه الهادىء الخجول أن يأخذ ابنته الكبرى أيضاً لأبنه الثاني بمهر واحد ، يعني فوق البيعة – عروستين بمهر واحد.. يا بلاش !! – قالها واختفى من امام والد العريس ، الذي فوجئ بالعرض ، سأل أبو العريس ابنه الكسول ، وفتح سوق المزايدة والبيع والشراء معه ، اخذ الأبن يجمع ويطرح ، مسألة حسابية توغلت في الحديث الى حد الصراخ وانقسام الحضور ، رفض أن يتزوج ” بعورة ، لكن والدته أقنعتة بحسها التجاري، أن الزواج من ” عورة ” يأخذ حسنات عند الله لأنه ” يجبر خاطرها ” ثم ” منين بدك توفر مصاري للمهر .. وهاي بتعيش كسيرة الجناح طول عمرها ، ما بتسألك وين رايح وين جاي !!! .

وتم عقد قرانها مع أختها ، وكانت فعلاً ” فوق البيعة ” باعوا الأخت وهي زيادة ، من أول ليلة قال لها عريسها ، انها زوجة فوق البيعة، أي أنها زيادة لا قيمة لها ، ورسم حدود تواجدها في حياته وفي قلبه وعقله، لم تمسك أي جهاز لقياس مشاعره، الا عرفت أن أجهزة قياس المشاعر في العالم لا تستطيع أن تفسر هذا التجاهل ، الذي أسقطها به طوال السنوات الثلاثين التي عاشتها معه .

جر التجاهل تجاهلاً من طرفها، رضيت أن تبقى تحت إطار ” فوق البيعة ” حتى عندما أحب امرأة أخرى ، لم تغضب ، بل اعتبرتها البيعة التي كان يبحث عنها ، اكسبتها البيعة أولادها الذين يصفقون ويضحكون عندما يحكي لهم والدهم قصة ” فوق البيعة ” انها النكتة الحارقة التي تحرق أعماقها، تحاول الضحك لكن لا أحد يتأمل الخيوط النارية التي تحرق جلدها .

مضى العمر وهي تشعر أنها بدون رداء أنثوي ، تغرد في قفص مغلق ، مجهز بقضبان مكهربة من نسيان تلك اللحظة !!

كلما كانت أمها تتأمل صمتها المطبق على حزن عميق، كانت تنظر إلى زوجها وتتحدث معه بلغة خاصة ، تنضح بندم يجلس على هامش الحياة، لم يغفر لها زوجها وجودها في حياته ، حتى عندما مرضت زارها في المستشفى ، حاول أن يفتح معها أبواب الحديث ، لم يجد باباً يفتحه دون أن يجرحها ، لذلك فضل الصمت البارد الملفع برائحة الأدوية .

عندما ماتت، أعلن أن سيدفنها في مقبرة عائلته ، فهي زوجته وأم أبنائه ، المسؤولون عن المقبرة قالوا له أن المقبرة مليئة ولا يوجد فيها مكان لميت جديد ، وبعد إصرار وتفتيش وجدوا أنه يستطيع أن يدفنها في قبر جدته ، فهي متوفية منذ أكثر من خمسين سنة ، ولم تعلم هذه المرة أن دفنها كان أيضاً ” فوق البيعة “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى