أزمة المعتقدات: علم نفس المستثمر والهشاشة المالية

محمد السالمي | عُمان

أبرز أحداث الأزمة المالية الأخيرة كان في انهيار بنك ليمان براذرز الاستثماري في 2008. حيث إنَّه فاجأ الجميع تقريباً؛ فقد فاجأ المستثمرين من حيث انخفاض مؤشر السوق، كما فاجأ كلا من المُتنبئين الاقتصاديين في الاحتياطي الفيدرالي والمؤسسات المالية الأخرى التي توقعت استمرار نمو الاقتصاد الأمريكي قبل ستة أسابيع فقط من إفلاس ليمان. وعلى عكس هذا التوقع، ذاب النظام المالي الأمريكي تقريبًا بعد إفلاس بنك ليمان، وانزلق الاقتصاد إلى ركود عميق. قد حدث هذا على الرغم من الجهود الحكومية غير العادية والناجحة في النهاية في حفظ النظام المالي بعد ليمان.  ولكن السؤال الأهم لماذا كانت أزمة ليمان مفاجأة؟ على الرغم من أن الحكومة سارعت لإنقاذ المؤسسات المالية الأخرى من مصير مُماثل بعد ليمان، إلا أنها لم تستطع منع أعمق ركود في تاريخ ما بعد الحرب. أزمة المعتقدات أو الافتراضات تجعلنا نعيد النظر في الأزمة المالية وطبيعة المخاطر الاقتصادية. في هذا الكتاب الموثوق والشامل، يكشف كل من الاقتصاديين نيكولا جينولي وأندريه شلايفر عن كيفية تشكيل معتقداتنا وافتراضاتنا حول الأسواق المالية، حيث قاما بمتابعة قراءة الأزمة بعناية عبر كشف ليمان براذرز والانهيار الذي تلا ذلك في النظام المالي الأمريكي، ومن ثم تقديم أدلة جديدة توضح الدور المزعزع للاستقرار الذي تلعبه معتقدات مشتري المنازل والمستثمرين والمنظمين. باستخدام أحدث الأبحاث في علم النفس والاقتصاد السلوكي، يقدم الكتاب نظرية جديدة لتكوين المعتقدات تشرح سبب صدمة الأزمة المالية لكثير من الناس، وكيف يستمر عدم الاستقرار المالي والاقتصادي. فنيكولا جينولي هو أستاذ العلوم المالية بجامعة بوكوني في إيطاليا، أما أندريه شلايفر فيعمل أستاذاً للعلوم الاقتصادية بجامعة هارفارد.

تتمثل نقطة الانطلاق لهذا الكتاب في تقييم وتحليل الافتراضات المالية. هذا يستتبع قياس توقعات المشاركين في السوق بشكل مباشر وأيضًا الاختبار المنهجي لكون هذه الافتراضات عقلانية أو لا، وتحديد نوع الأخطاء (إن وجدت) التي يرتكبها المستثمرون. هذا المشروع ممكن لأنَّ ثروة من بيانات المسح متاحة من خلال تقارير توقعات المستثمرين ومديري الشركات والأسر والمتنبئين المحترفين. تقدم هذه البيانات رؤى مهمة حول ما إذا كان في2008 وفي حلقات تاريخية أخرى عن تقدير المستثمرين للمخاطر بناءً على ما قبل الأزمة أو بدلاً من ذلك الفشل في رؤية المتاعب القادمة. بشكل عام، تساعد بيانات المسح في تحديد الأنماط المعتادة في الافتراضات خلال التقلبات الاقتصادية، هناك حاجة لتطوير نظريات أفضل حول تكوين التوقعات ودورات الائتمان.  منهج الكتاب هو امتداد طبيعي لبحث طويل الأمد حول جدول أعمال في التمويل السلوكي. يختبر التمويل السلوكي التقليدي عقلانية الافتراضات بشكل غير مُباشر، من خلال النظر في إمكانية التنبؤ بالعائدات. لأنَّ العائدات يجب أن تكون غير متوقعة في الغالب عند الأسواق التي تتسم بالكفاءة. هنا نأخذ الخطوة التالية ويجادل بأن بيانات التوقعات الفعلية يجب أن تصبح هدفًا مباشرًا للتحقيق. يمكن أن تلقي هذه البيانات مزيدًا من الضوء على ما يفكر فيه المستثمرون وكيف تتاجر، وعلى سلوك السوق أيضا. التركيز على الافتراضات هو محوري في حالات الرافعة المالية العالية، مثل دراسة دورات الائتمان، لأن التغييرات في التوقعات يمكن أن تؤدي إلى حدوث اضطرابات هائلة في النظام المالي، كما رأينا بعد إفلاس ليمان.

على مدار الأربعين عامًا الماضية، هيمنت فرضية التوقعات المنطقية على الاقتصاد الكلي، والتمويل والأسواق الفعالة. هذه النظريات التي تمثل إنجازات فكرية مهمة في اقتصاديات القرن العشرين، على اعتبار أن الفعالين في الاقتصاد عقلانيون أو منطقيون، وعلى هذا النحو، فإنهم يشكلون توقعاتهم بشأن المستقبل بطريقة مثالية من الناحية الإحصائية، بالنظر إلى هيكل الاقتصاد. هذا الرأي له نتيجة واحدة عميقة حسب المؤلفين، وهذا يعني أن التوقعات يمليها هيكل الاقتصاد نفسه، بحيث بيانات المسح على التوقعات هي معلومات زائدة عن الحاجة وصاخبة. ضعف هذا النهج هو أن العقلانية أو المنطقية، مثل أي فرضية أخرى، لا يمكن اعتماداها كمبدأ. بدلاً من ذلك، فإن تشارلز مانسكي، يرى أنه ينبغي أن تخضع هذه الافتراضات لاختبارات تجريبية. في الواقع، تخبرنا بيانات التوقعات بشيء أعمق عبر الكثير من المجالات الاقتصادية، حيث يمكن التنبؤ بالأخطاء المتوقعة، حتى بين المتنبئين المحترفين. التوقعات متفائلة للغاية في الأوقات الجيدة وكذلك مُتشائمة في الأوقات السيئة. وهذا يتناقض مع فرضية التوقعات المنطقية، التي تنص على أنَّ التوقعات المثلى من الناحية الإحصائية ينبغي استخدام جميع المعلومات المتاحة، وبالتالي تجنب الأخطاء التي يُمكن التنبؤ بها. ومن هنا تفشل النماذج الاقتصادية القياسية في حساب التوقعات بسبب فجوة كبيرة في التحليل.

كما يشير الكتاب إلى أنَّ النظريات الاقتصادية التي تبنى على التعميم الافتراض المنطقي هي ساذجة وغير منطقية في التطبيق العملي، وهذا يقودنا إلى الانتقال من تحليل بيانات الافتراضات إلى نظرية جديدة لتشكيل التوقعات التي يمكننا بها حساب الحقائق. يقدم الكتاب واحدة من قواعد علم النفس لتشكيل التوقع، والتي يمكن تسميتها التوقعات التشخيصية؛ حيث تم تطوير هذه النظرية وأخذها من الناحية النظرية والتجريبية إلى عدد من المجالات المختلفة. لا شك أن النظرية ليست الكلمة الأخيرة في نمذجة التوقعات، ولكنها تشير إلى أنه يمكن للمرء إحراز بعض التقدم في فهم واقع الأسواق المالية من خلال الابتعاد عنها في اتجاه واقعي نفسيًا. ومن ثم فإنّ تطوير هذا النموذج من التوقعات، يتم الاسترشاد فيه بأربعة اعتبارات رئيسية. أولا، أن تكون نظرية الافتراضات معقولة بيولوجيا ونفسيًا، وعلى وجه الخصوص على أساس أدلة على الحكم البشري التي تم الحصول عليها في البيانات التجريبية. ثانياً، أن تكون نظرية الافتراضات محمولة بالمعنى الذي اقترحه ماثيو رابين (2013)، والتي تؤكد أن النظرية يجب أن تفسر عبر الأدلة في التجارب النفسية، والأحكام الاجتماعية للأفراد، والأسواق المالية، وربما المجالات الأخرى. ثالثًا، أن النظريةً تكون فيها الافتراضات تطلعية. قبل ثورة الافتراضات المنطقية، اعتمد الاقتصاديون على نماذج من التوقعات التكيفية، والتي صاغها صانعو القرار ميكانيكيا في استقراء الماضي بدلاً من الرد على الأخبار. وقد انتقد روبرت لوكاس (1976) هذه النماذج بفعالية، حيث إن المستثمرين يتفاعلون مع الأخبار حول المُستقبل في تشكيل افتراضاتهم. الأدلة من علم النفس كما تدل على ذلك أن سلوك البشر لا يُمكن تفسيره ميكانيكيًا. وأخيرًا، أن تكون نظرية تكوين الافتراض قابلة للاختبار باستخدام أدلة المسح على المعتقدات. تشير الأدلة المتوفرة إلى أن توقعات الاستطلاع ليست ضوضاء وأن المستثمرين والمُديرين يقومون باتخاذ القرارات تمشيًا مع قناعتهم المعلنة. بالنسبة لمؤلفي الكتاب، تعتبر هذه القناعات عنصرًا مهمًا من البيانات التجريبية التي تحتاج النماذج الاقتصادية إلى شرحها مثل أي مكون آخر. يجب أن يكون النموذج الناجح لتشكيل الافتراض كبداية لقياس القناعات.

في بقية هذا الكتاب، يقوم الكاتبان بتطوير هذه الأفكار بشكل أكثر منهجية. حيث يلخص الفصل الأول الحقائق الأساسية حول الأزمة المالية لعام 2008 وتلفت الانتباه إلى العديد من الحقائق الرئيسية التي تحتاج إلى شرح، مثل التأخير لمدة عام بين بداية الأخبار السيئة عن الإسكان وإفلاس ليمان. الفصل الثاني يُقدم مجموعة متنوعة من الأدلة، سواء من الدراسات الاستقصائية أو من خطب مقرري السياسات والحسابات السردية، التي تلخص الافتراضات خلال هذه الفترة.

رسالة من هذا الفصل هي أنَّ الاستقراء وإهمال الذيل الأيسر(من التوزيع الطبيعي للمتغيرات)، كان لها وقع كبير في تراكم الأزمات من السكن إلى الأزمة المالية. الفصول الثلاثة الأولى تترك لنا سؤالين: أولاً، هل استقراء وإهمال الملامح العامة للمخاطر في الافتراضات هي حلقات أخرى من تقلبات السوق؟ تسمح الحلقة المفردة من 2007-2008 باستنتاج محدود، لذا فإن تقييم الأخطاء في الافتراضات على نطاق أوسع أمر بالغ الأهمية لتقييم أهميتها للضعف المالي. ثانياً، يقوم نموذج تشويه القناعات في الفصل الثالث بعدة افتراضات حول ظروف في ظلها تظهر قناعات الاستقراء وإهمال المخاطر. هل هذه الافتراضات واقعية وقابلة للتطبيق في سياقات أخرى؟ هنا نرى أهمية البدء بمؤسسات نفسية أكثر منهجية.

في الفصل الرابع، يحدد الكتاب ثلاث حقائق رئيسية تعتبر في التحليل. أولاً، في الحالات التي تتاح فيها مصادر بيانات مُتعددة حول نفس التوقعات، تكون توقعات الاستقصاء متسقة للغاية عبر هذه المصادر. ثانياً، أن المستثمرين والمديرين عند اتخاذهم القرارات فإنِّها تتماشى مع توقعاتهم المُعلنة. ثالثًا، في العديد من المجالات، توقعات الاستقصاء استقلالية. تشير الدلائل الأكثر أهمية إلى إمكانية التنبؤ بالظروف الاقتصادية وعوائد الأوراق المالية من مؤشرات تباطؤ سوق الائتمان، مثل نمو الائتمان، وهوامش الائتمان، وحصة الديون المحفوفة بالمخاطر.

 الفصل الخامس يتم عرض اللب المركزي لهذا الكتاب، والذي هو نموذج لتشكيل التوقع الذي قام المؤلفان بتطويره . يبني هذا نموذج التوقعات من الأسس النفسية، ابتداء من عمل وصف نموذج رسمي تحول به توزيعات الاحتمال الحقيقية للنتائج المستقبلية إلى تلك المتوقعة من الناحية التشخيصية. يعرض هذا الفصل كيف يمكن لهذا النموذج حساب نتائج التجارب الشهيرة ولكن بشكل أعم يشرح الافتراضات المشوهة مثل الصور النمطية في المجالات الاجتماعية، ثم يستخدم هذا النموذج لحساب مراحل أزمة عام 2008: الوفرة حول نمو أسعار المساكن، وفترة الهدوء بعد بدء أول الأخبار السيئة، وانهيار الأسواق بعد ليمان. على عكس النظريات الأخرى، فإنَّ نموذج الكتاب للتوقعات التشخيصية لا يحسب نتائج السوق فقط خلال هذه الفترة ولكن أيضًا يحسب قناعات المشاركين. في الفصل السادس، قام المؤلفان بتجميع العناصر المختلفة معًا من خلال تقديم نموذج اقتصادي ديناميكي كامل للدورات الائتمانية مع توقعات تشخيصية. في النموذج على سبيل المثال، تؤدي الأخبار الجيدة إلى التفاؤل المفرط للتوقعات والتوسع المفرط للائتمان والنشاط الاقتصادي. في الختام يأمل المؤلفان من تحقيق عدة أهداف من هذا الكتاب. الأول هو تقديم سرد جديد للأزمة المالية لعام 2008 عبر إعطاء دور مركزي للافتراضات في المحاسبة سواء لفترات النسبية من الهدوء والتذبذب الشديد. ثانيا، أن توقعات المسح هي مصدر صالح ومفيد للغاية للبيانات للتحليل الاقتصادي حيث يمكن استخدامها لاختبار الفرضيات التقليدية الفارغة، مثل التوقعات المنطقية. ربما الأهم من ذلك، يمكن استخدام بيانات التوقعات لاختبار وتمييز النماذج البديلة للتقلبات الاقتصادية.

ومن هنا فإنَّ كتاب “أزمة المعتقدات”، هو من أفضل الكتب لأي شخص يسعى إلى التعرف على الأسواق المالية بشكل أوسع، كونها هي أول محاولة جريئة لتوسيع أسس مجال التوقعات من خلال وضعها على رأس الحكم والسلوك غير الكامل للبشر. بالإضافة إلى ذلك، يوضح الكتاب كيف أن أذكى المشاركين والمنظمين في السوق لم يقدّروا تمامًا مدى المخاطر الاقتصادية، ويوفر إطارًا جديدًا لفهم النظم المالية الحالية.

تفاصيل الكتاب: اسم الكتاب: أزمة المعتقدات: علم نفس المستثمر والهشاشة المالية

المؤلفان: نيكولا جينولي وأندريه شلايفر

الناشر: Princeton University Press

سنة النشر: 2018

اللغة:الانجليزية

عدد الصفحات: 264 صفحة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى