مدينةٌ مغلقةٌ
نور الهدى شعبان | سوريا
النَّهارُ المكتظُّ بالحكاياتِ المستعجلةِ رقصَ على أنغامِ المدينةِ الهاربةِ من شدَّةِ الوجعِ، اعتادَ خوضَ حلبةِ الصِّراعاتِ الثَّائرةِ فوقَ الأرصفةِ الفارغةِ، ستائرُ الشَّمسِ الّتي سقطَتْ على المدينةِ الواقعةِ في مستنقعِ الحياةِ، قبّلَتْ وجوهَها النَّاهضةِ من رحمِ المعاناةِ ،تسلَّلَتْ من بينَ جيوبِ الظِّلِّ لتُخفي عن أجسادِها ما لوَّثوهُ دعاةُ الإنسانيَّةِ في عمليَّةِ إنقاذٍ .
لوجْهِ نيرمين الفاتنُ الممتلئُ ذو الغمازتينِ ووشمٍ إلاهيٍّ يعلو حاجبَها ما يكفي من بهاءٍ يوقعُ أشدَّ الرِّجالِ بأساً في عشقِها .
إلَّا أنَّ الأقدارَ الَّتي امتهنَتْ اقتناصَ الفرحِ، جعلَتْ من ذاكَ الجمالُ نقمةً عليها بعدَما اختارَ القدرُ لسندِها الوحيدَ والدَها رحلةً لا عودةَ منها ولا وداعاً.
وبعدَ تسلُّلِ مكيدةَ العادةِ في غفلتِها وطفولتِها البريئةَ لتصحو في فراشٍ مريضٍ عابقٍ برائحةِ العربدةِ من سكِّيرٍ غائبٍ عن الحياةِ في ملذَّاتِهِ وجبروتِهِ على ضعفِها .
بعدَ سنواتٍ عجافٍ سلبَتْ من ملامحِها بهجةَ الحياةِ و ركنَتْ بها في واقعِ المدينةِ المقيمةِ بمستنقعِ العاداتِ، نفضَتْ عنها آلامَها وتمرَّدَتْ على أقدارِها الحمقاءَ لتنزعَ عن عنقِها حبلَ المشنقةِ وتتحرَّرَ برفقةِ براعمٍ ثلاثة .
فبدأَتْ تسابقُ الفجرَ لتصنعَ الخبزَ المعجونَ بالألمِ من صباحاتٍ متناوبةٍ في تشكيلِ ثمارَها، لتُرْمِقَ جوعَ بطونِ الأحلامِ من لحمِها وكبدِها ..
بينما تمضي في سوقِ الحياةِ المظلمِ لتجني أطواقَ نجاةٍ، تتلقَّفَها المكائدُ هنا وهناكَ فكلَّما سقطَتْ تعلَّقَتْ بحبلِ نجاةٍ، وما يغطِّي تلكَ الحبالُ زيَّ النَّوايا الَّلاهثةَ وراءَ ما يشبعُ شهوتَها والغريزةَ، ما جعلَ نيرمين تفتحُ أبوابَ مساءَاتِها بوجهِ أطواقِ نجاةٍ ملوَّنةٍ، وهي تعرِّي فحولَتها السَّاقطةَ فوقَ الفراشِ المثقلِ بالأوجاعِ، بينما تضحكُ ضحكاتَها المرتفعةَ وكأنَّها صرخاتٌ تشقُّ خاصرةَ الَّليلِ وتتهاوى على خشبةِ التَّمثيلِ الَّتي أتقنَها رعاةُ الألمِ في غفلةِ السَّاعاتِ الهاربةِ من أبوابَ الَّليلِ الّذي يتقيَّأُ الوعودَ الخائبةَ، فتمزِّقُها نيرمين كلَّ صباحٍ بعدَ أنْ تعودَ لتغلقَ أبوابَها بهدوءٍ، وتشرِّعُ النَّوافذَ المسوَّرةَ بالحديدِ لتملأَ أفواهَ الحرَّاسِ بما يصمْتُ تكالبَها والعواءَ ..
النَّهار: إلى متى ستُغرِقينَ مساءاتُك بماءاتٍ مسمومةٍ ماذا بعدُ ..
نيرمين: لا شيءَ عزيزي لقدْ امتلأتُ بطعناتِ حرَّاسِ نهاراتِكَ الملتهبةِ بأوجاعي من دعاةِ الخيرِ ..
دَعني وليلي نعرِّي الرُّجولةَ أمامَ صخبَ أنوثَتي المذبوحةِ دعني أصنعُ من أصلابِهم المسمومةِ أغطيةً سوداءَ لحقائقِهم الملوَّثةِ ..
أمّا أنتَ تهيَّأ لأُلملِمَ من سنابِلِكَ قمحاً لضوضائي فينضجُ عجينُكَ من نهشِ لحمي وأرمقُ فيهِ جوعَ الأحلامِ في براعمي ..
علَّها غداً لا تنسى طعمَ خبزي وتصابُ بداءِ المدينةِ .