ملامح وصف الطبيعة في الأدب الأندلسي
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
يحتلُّ تاريخ الأندلس مكانةً عاليةً، ومنزلةً ساميةً، عند المؤرخين وعشَّاق التاريخ الإسلامي بصفة عامة، وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة قرون على سقوط الأندلس وزوالها، وانقضاء حضارتها وانطفاء نورها، إلا أنها لا تزال حتى يومنا هذا قِبلةً للعلماء والباحثين، والأدباء والدارسين، يتدارسون ما خلَّفته تلك الحضارة الراقية من أصالة وانجازات نفعت البشرية، وخدمت الانسانية، وتركت في العالم أثرًا لا يمكن إغفاله، ويستحيل مع الزمن إهماله، إذ أن نجاح الحضارات لا يُقاس بذهابها، ولا يُحكم عليها بالفشل لمجرِّد انتهائها، بل يُقاس بما خلَّفته من آثارٍ جليلة، وعلوم نافعة، وآداب راقية، تمامًا مثلما اندثرت جميع الحضارات القديمة سواء الفرعونية والبابلية والإغريقية واليومانية والعربية القديمة، ولكنَّ كلًّا منها خلَّفت آثارًا راقيةً في مجالات الآداب والعلوم، والعمارة والفنون، ومن بينها حضارة المسلمين في الأندلس التي يكفيها فخرًا أن أوربا الحديثة تدين لها كل الدين وتعترف على لسان روادها، ورموزها وعلمائها، بأنها كانت سبب نهوضهم من كبوتهم، وانتشالهم من أزمتهم، حيث كانت “قرطبة” وأخواتها من مدن الإسلام في الأندلس وجهة الكثيرين من الطلاب الأوربيين للتَّعلم في مدارسها، والنَّهل من علومها وحضارتها، حيث كانت الأندلس قد بلغت قدرًا راقيًا في الحضارة والعلم، بينما كانت أوربا آنذاك غارقةً في مستنقعات الفوضى والجهل.
ويُعتبر الأدب الأندلسي وما تركه الأدباء من الشعر والنثر والقصص من ضمن الصور على تلك الحضارة السامية، والثقافة الراقية، ومن المعروف أنَّ الأدب بنمطٍ عام يكون صورةً معبرةً، ومرآةً واضحةً، تعبر عن مدى حضارة المجتمع ورقيه، ونضارته ونضجه، فإذا تطوَّر الأدب كان ذلك دليلاً على تطور المجتمع وازدهاره، وإن تقهقر الأدب يكون ذلك دليلاً على تدهوره وانحداره.
وعادة ما يخصص دارسو الأدب للأندلس بابًا خاصًا منفصلاً عن بقية العصور التاريخية في المشرق وهو دليلٌ على رقي أدب الأندلس وازدهار حضارتها، واستقلال طابعها وسعة ثقافتها، ولعل هذا يرجع إلى أسبابٍ تاريخية وجغرافية، وعوامل اجتماعية وثقافية، كونها أول إقليم يستقل عن الخلافة العباسية على يد الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل، ومنذ ذلك الوقت وللأندلس استقلالها، وطابعها الذي ميَّز كيانها، هذا مع بعد الشقة بين الأندلس وأقاليم المشرق، بالإضافة إلى أنَّ الأندلس كانت حضارةً عربيةً إسلاميةً، قامت على أرض أوربية، وتشكَّلت منها حضارة ذات ملامح خاصة لا تجد مثيلها في المشرق، اجتمعت فيها عناصر بشرية شكَّلت مجتمعًا راقيًا قدَّم للإنسانية مئات من العلماء والنابغين، والأدباء والمفكِّرين، ممن خُلِّدت أسماؤهم،وحُفِظت أثارهم، وبقيت أعمالهم، ليثبتوا أنَّ الأندلس كانت جنَّة الله في أرضه بلا ريب، ومنارة العلوم والفنون بكل فخر.
وكان الشعر الأندلسي صورةً صادقةً معبَّرة عن الرقي المجتمعي الأندلسي الذي تفاعل مع الطبيعة بجمالها، ومع تلك الحضارة وأثرها، وإذا ما تناولنا وصف الطبيعة في الشعر الأندلسي وجدنا معانيًا مبتكرةً، وأخيلةً دقيقةً، وصورًا أنيقة، وأحاسيس متدفقة براقة، وكل هذا كان نتاجًا طبيعيًا للطبيعة الخلابة، والأجواء الساحرة، التي تزيِّنها الأنهار، وتحيطها الوديان، والجنان والمساحات الخضراء بما فيها من أشجار وزهور، ورياض وورود، فوصفوا الأزهار والثمار، ووصفوا السحاب والرعد والبرق والطيور وقوس قزح ومن تلك الروائع قول ابن خفاجة الشاعر الأندلسي الذي عُرف بحبه وشغفه للطبيعة
يَأَهـلَ أَندَلُـسٍ لِلَّهِ دَرُّكُـمُ
ماءٌ وَظِـلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ
ما جَنَّةُ الخُلدِ إِلّا في دِيارِكُمُ
وَلَو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أَختارُ
ويقول محمد بن سفر المريني في أبيات لا تخلو من الحس المرهف، والذوق الرقيق، يصف الطبيعة وصفًا دقيقًا في خيالٍ أنيق، وإحساسٍ مرنٍ رشيق
في أرض أندلسٍ تلتـذُّ نـعماءُ
ولايفـارقُ فيها القلبَ سرَّاءُ
أنهارهــا فضَّـةٌ والمسـكُ تربتهـا
والـخَــزُّ روضتها والــدُّرُّ حصـباءُ
لذاك يبسم فيها الزَّهر من طـربٍ
والطــَّير يشدو وللأغصان إصغاءُ
فيها خلعْتُ عذاربي ما بها عوضٌ
فهْي الرِّياض وكلُّ الأرضِ صحراءُ
ولم يقفِ الأندلسيون على وصف إجمال الطبيعة وسحرها، والتغنِّي بروعتها وجمالها، بل إن الدقة وصلت لهم أنهم وصفوا عناصرها كلا على حدة، فوصفوا الياسمين والنرجس والشقائق والنيلوفر والقرنفل وسائر أنواع الثمار كالتفاح والرمَّان والعنب،ووصفوا المد والجزر والأصداف والثلوج مبتكرين أفكارًا جديدة، وصورًا أنيقة، وأذواقًا رفيعة، بل بلغت بهم الدقة أنهم وصفوا قطرات النَّدى على جبين الأزهار في صورةٍ مثيرةٍ للدهشة وملفتة للانتباه، فنرى أبا بكر بن هذيل يصف روضةً لعبت بأغصانها قطر الندى، وعبثَ بها ريح الصِّبا، في تشبيهات حسِّية رائعةِ، ورقَّةٍ اقترنت ببساطةٍ في الإيقاع والتركيب، وسلاسةٍ في التعبير، قائلا:
هبَّـت لنا ريحُ الصَّبا فتعانَقت
فذكرتُ جيدَكِ في العناقِ وجيدي
وإِذا تـألَّف في أعاليهـا النَّدى
مالت بـأعناقٍ ولُـطفِ قـدودَ
وإِذا التقـت بالرّيحِ لم تُبـصِر بها
إلاّ خدودًا تلتقي بخدودِ
ولا يخلو وصف الطبيعة في الأندس من الظُّرف والفكاهة حيث بلغ بشعراء الأندلس أن رثوا االأزهار الذابلة واصفين ما بهم من أحزان، أو ربما هجوها في بعض الأحيان، بصورة توضح إلى أي مدى بلغ بالخيال لدى الشعراء الأندلسيين كما في قول ابن حمديس:
يا باقةً في يميني للـرَّدى بُذِلَـتْ
أذابَ قَلبي عَلَيكِ الحُزْنُ والأسَفُ
أَلَم تَكوني لِتاجِ الحُسْـنِ جَوهرةً
لَمّا غَرِقْتِ فَهَلّا صَانَكِ الصّدفُ
ومن أروع وصف الطبيعة ما جاء في قول ابن زمرك أحد أواخر أدباء الأندلس
رعـى الله زهـرًا ينتمـي لقرنفـل
حكى عرْفَ من أهوى وإشراقَ خَدِّهِ
ومن أبرز الجماليات في شعر الطبيعة ما قاله محمد بن سفر في وصف نهر الوادي في اشبيلة يذكر فيه المد والجزر في صورةٍ فنيَّةٍ مبتكرةٍ يجسِّدها التشخيص واستنطاق الجمادات وبث الرُّوح فيها حيث يقول:
جئت الجزيرة والخليج يحفّها
يشكو إليـها كي تجيب حوارهُ
شقّ النسيم عليه جيب قميصه
فانساب من شطّيه يطلب ثارهُ
فتضاحكت ورق الحمام بدوحه
هـزءًا فضـمَّ من الحياء إزارهُ
ولم يكن وصف الطبيعة على اتساعه هو الشاغل الوحيد لشعراء الأندلس بل إنهم وصفوا كذلك الجانب المادي للحضارة المزدهرة، إذ أنَّ المسلمين لما فتحوا الأندلس تفاعلوا مع سحر الطبيعة وجمالها، وتأثَّروا بروعتها وجاذبيتها، فشيَّدوا القصور الفخمة، والمساجد الفاخرة، والمباني البديعة، وأقاموا مدنًا وقلاعًا جديدة، وتدلُّ روعة الأحياء العربية القديمة في مدن إسبانيا مثل طليطلة وغرناطة وقرطبة واشبيلية على مدى تأنُّقِ الأندلسيين وروعة عمارتهم حتى في بيوتهم الصغيرة، وأزقتهم القديمة، وقد بلغ السرف والترف ببعض حكام الأندلس إلى تشييد قصورهم الفاخرة، ومبانيهم العامرة، وتفنُّنهم في الزخرفة والزينة والعمارة فشكَّل هذا الجانب المادي الحضاري جزءًا أصيلاً من شعر الطبيعة في الأندلس على نحو ما ترى في شعر ابن حمديس يصف قصرًا في مدينة بجايا الجزائرية حيث أثار قريحته جمال بركه حولها تماثيل على هيئة أسود كانت آيةً في الجمال فقال يصفها وصفًا دقيقًا أنيقًا لا يخلو من التشبيهات البديعة التي تدلُّ على عمق خياله وحسِّه المرهف
وضراغمٌ سَكَنَتْ عرينَ رئاسـة
تركـتْ خـريرَ المـاء فيه زئيرا
فكـأنّما غَشّى النّضارُ جُسومَهَا
وأذابَ في أفـواهِها البـلّورا
أُسْـدٌ كـأنَّ سكونَها متحـرِّكٌ
في النفس لو وجدتْ هناك مثيرا
وبلغ من عمق وصف الطبيعة في الأدب الأندلسي أنه اختلط في أحايين عديدة، وقصائد كثيرة، بأغراض شعرية أخرى، وموضوعات أدبية شتَّى، فنجد وصف الطبيعة قد اقترن بالغزل، واتَّصل بالمديح، وتلاحم في كثيرٍ من الأحيان مع بث الشكوى والحنين، كما فعل الأمير عبد الرحمن الداخل حينما وصف نخلةً بجوار قصرهِ هيَّجت حنينه إلى موطنه الأصلي في الشام حيث قال
تـبـدَّت لنا وسط الرصـافـة نـخـلةٌ
تـنـاءت بأرضِ الغرب عن بلد النَّخْلِ
فقلْتُ شـبـيـهـي في التغرُّب والنَّوى
وطول التنـائي عن بنيِّ وعن أهلي
نـشأْتِ بأرضٍ أنـت فـيها غريـبةٌ
فمثلك في الإقـصاءِ والمنتـأى مثلي
وخلاصة القول فإن شعر الطبيعة الأندلسي كان عنوانًا للمدى الذي بلغته حضارة الأندلس في رقيها وازدهارها، وتقدُّمها وارتقائها، فكان صورةً تصف ملامح تلك الحضارة وجمالها بكل دقة، وتخلِّدها بكل روعة، ونرى فيما بقي بإسبانيا من آثار قديمة، وعادات وطباع كثيرة، بعد مرور قرون على انهيار الحكم الإسلامي فيها وجهًا حيًّا يحكي عن حضارتها، ويخلِّدُ تاريخها، ويسطِّرُ بمنتهى الفخر أمجادها.