كيف يفكر المثقف ضد السياسي؟!
الدكتور بوعلي الغزيوي | المغرب
إذا كان المفكر بولانتزاس يعتبر السياسي هو السلطة المؤسسة للدولة، وليس التطابق بين السياسة والتاريخ كما عند غرامشي، فهذه الرؤية إذن هي ضد التاريخية تقتضي وضع مكانة السياسي المؤسس للدولة داخل النمط الإنتاجي، ويقول في هذا المقام:
(ليست الدولة هي إنتاج المجتمع في مرحلة معينة من تطوره، بل هي اعتراف بأن المجتمع يتخبط مع ذاته في تناقضات لا حل لها وبأنه انقسم إلى أطراف متعارضة ومتنافرة لا قدرة لها على اجتنابها)(1).
وانطلاقا من هذا الطرحي البنبوي نستشف أن الطبقات، والدولة والمجتمع تذوب وتنمحي، لذا تظهر الحاجة إلى السلطة، وتوضع ظاهريا فوق المجتمع، لتنبثق السلطة كبعد بنيوي وأن يخضع السياسي داخل بنية التشكيلة الاجتماعية من جهة كمستوى خاص، ومن جهة أخرى كمستوى جوهري، تنعكس وتتمركز فيه تناقضات تشكيلية ما”(2)
فالسياسي حسب هذا المفكر هو السلطة المؤسسة للدولة، أما السياسة فهي الممارسة الطبقية التي تكون متعالية وغريبة عن الجهاز السياسي، لأن الدولة هي التماسك الذي يحافظ على النظام، ويقول إن السلطة لا توجد في مستويات البنيات، فهي أثر مجموع هذه المستويات، ومع ذلك تطبع كل مستوى من مستويات الصراع الطبقي وعندما تتكلم عن سلطة الدولة، فهي سلطة طبقة معينة تستجيب لمصالحها دون الطبقات الأخرى(3)
فهذا الموقف البولانزاسي هو موقف بنيوي، جعله يستقرئ كل المفاهيم الموظفة من إنجليز وماركس، وغرامشي، نظرا للتطور الرأسمالي (السياسي الإيديولوجي والاقتصادي) التي أمدته برؤية نقدية التي تعيد النظر في أصل الدولة، والسلطة، فبولا نتراس يرى أن الماركسية اهتمت بالسلطة ولم تلتفت إلى الطوائف والمجتمعات العرفية، والقبلية، لذا يرى بدوره قدور كايم أن السلطة تستخلص من تصوره للسلطة الاجتماعية، وأن السياسة ما هي إلا سيرورة اجتماعية مولدة بشكل عام من المجتمع، فدور كايم لم يؤطر نظرية حول السلطة، نظرا للتأثير الاجتماعي الذي عاشه وتتعايش معه لذا ربط السلطة بسلطة المجتمع فرفض نظرية العقد الاجتماعي الذي ناد به جان جاك روسو لأنها لا تتلائم مع تقسيم العمل الاجتماعي، لأن المجتمع هو الذي يخلق سلطة أخلاقية (مجتمع) أو قانونية (دولة)، فهو الذي يعمل أيضا على ضمان الأمن، فالسلطة حسب دوركايم لا توجد إلا على مستوى التصور أو الفكر فهي حالة ينتج عنها نماذج الضرورية لمراقبة المجتمع، وتسييره وفق شروط معينة، لذا فالسلطة هي التي تجذب الفرد إلى الانخراط وتلقنه الأوامر والنواهي عن طريق المدارس والتربية والأخلاق، حيث أن كل فرد مستعد أن يعيش في المجتمع، فهذا الأخير هو ضد كل حركة مناوئة له، ولا قيمة للفرد إلا داخل الجماعة، إذن فهذا الاعتقاد الكلي يربط بين السياسي والديني باعتبارها سيرورة اجتماعية.
المرتبط بالديني، والحضاري، فهذه المحددات التي ذكرناها هي توليدات حضارية مبنية على قاعدة اقتصادية عقلانية وعقلانية سياسية، لذا عمل على إعادة النظر في بعض السلوكات التي تختلف عن الرأسمالية، جاعلا أن الفرد قادر على خلق حاجاته الاقتصادية كمؤسسات، وكفعل حركي يستطيع عبرها توجيه الفعل الإرادي والسياسي، باعتباره مجموع أشكال السلوك الإنساني التي تتضمن سيطرة الفرد على الآخر، فهذا التصور هو الفعل وضد الفعل أي هناك من يضع القرار والأمر المحدد من أجل الخضوع، وهناك من يبرر الوجود بالمشروعية لذا عمل فيبر بتقسيمها إلى ثلاثة عناصر سلطوية، كالسلطة التقليدية المرتبطة بالتقاليد وبقدسية الشخص ويسميها بالباتر مونيالي (نظام الملكية)، وتصبح السلطة خاضعة للعادات والأعراف والبطريركية (السلالة) أما السلطة الكاريزمية فهي التي تمتد طاقتها الروحانية والقدسية والزعامية والبطولية من خلال هذه الشخصية المهيمنة.
أما السلطة القانونية فهي سلطة الدولة تمارس مهامها عبر وسيلتين: هما الإدارة والاحتكار لكل شيء، فالسلطة حسب فيبر لم تفرض من الأعلى، ولا تعتمد على الخضوع القهري، بل هي اتفاق بين القوي والضعيف وهذا ما نراه في واقعنا المعاصر حيث أن هناك سلطة مقننة وسلطة دينية خاضع لأن المتعالية دون حوار يذكر، وهناك سلطة معرفية التي يباشرها المثقف والفقيه، لذا يبقى المجتمع خاضعا للتحولات البنيوية، ولشروط حتمية ولضرورة اجتماعية.
من هنا نطرح السؤال كيف يمارس السياسي خطابه؟ وما علاقة السياسي بالمثقف؟
أسئلة تقربنا إلى التطور الغربي الذي يرى بأن السياسة لا تكون بريئة، بل هي ملطخة بمجموعة من التصورات الغير البريئة منها ما هو مرجعي (ومنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو بنيوي ومنها ما هو سوسيوا اقتصادي لأن الأمر يستحق التأمل من خلال هذا التنوع المرتبط بين السياسي والمثقف، لأن كل واحد يستخدم بشكل كامل الأساليب الفكرية في زمانه، ويثير التساؤلات إزاء الحضارة لما لديها من أعراض وصراعات مادية ومعنوية، لذا يقتضي معرفة أسباب التواصل المطلوب في المجتمعات(4) باعتبارها صور ناقصة للنظام الذي يطلبه المثقف والسياسي.
فالسلطة هي تلازم مرجعي إنساني واجتماعي، فهي لا تأخذ طابعها السياسي إلا من خلال مرحلة التطور المباشر ويرى لابيير أن السلطة هي التي تفرض على الأفراد نفسها بدون أن يمارسها شخص معين فالكل يمارس ويخضع للسلطة بدون قمع ولا هيمنة فردانية وهذا يوافق الطابع القبلي الذي تعيشه المجتمعات العربية، كالمغرب، والجزائر، وليبيا، وقطر، والسعودية، وقطر وغيرها من الدول العربية التقليدية(5) فالفرد ينخضع للجماعة بدون جهاز المراقبة والعقاب، فهذا التصور المغلق لا يمنح للفرد حرية مطلقة بل يعيش كما يعيش فريقه نوعا من الانعزالية والانغلاق وهذا التصور لا يتلائم مع التطور الزمكاني، بل يخضع للسيرورة حتى تكون هذه السلطة خاضعة للفرد نظرا لعبقريته ومصداقيته المادية والعرفية والدموية والروحانية والنفوذية ولكن هذه السلطة الشخصانية لا تستقيم مع شروط المعرفة الموضوعية، نظرا للتحولات الاجتماعية سواء على مستوى الثقافي أو الفكري أو على مستوى العلمي والاقتصادي، فتصبح السلطة بدورها خاضعة لهذا التحول الذي يؤدي إلى بناء الدولة التي هي السلطة القانونية والسياسية لكن أحد أعمدة مدرسة فرانكفورت في كتابه “بؤس الأيديولوجيا”، يرى بأن القوانين التي يسير التطور التاريخي وفقا لها لا تسير وفق النموذج(6) الذي ينبغي واجبنا أن نحلل القوى التي تحدث التغيير الاجتماعي وتخلق التاريخ الإنساني ونحن نتعلم من الديناميكا كيف تنشأ قوى جديدة على القوى المؤثرة في بعضها البعض بالعكس من ذلك، يساعدنا تحليل القوى إلى مكوناتها على النفاذ إلى العلل الأساسية المسببة للحوادث التي ننظر فيها، وبالمثل يطلب من المذهب التاريخاني التسليم بما للقوى التاريخية من أهمية جوهرية سواء كانت هذه القوى روحية كالأفكار الدينية أو الأخلاقية أو مادية كالمصالح الاقتصادية(7)
فهذه النزعة تعمل على تصنيف المجتمعات وفق منطق سياسي متنوع لأن السياسي موجود بالقوة رغم غياب المؤسسات كالدولة، حيث يكون على شكل زعامات فردية أو عبارة عن علاقة قرابية، لأنه هو محرك التاريخ، والاقتصاد وهذا مخالف لما قالته الماركسية، إذن يبقى المثقف هو القادر على فهم الظاهرة الاجتماعية وفهمها فهما وفق الشكل الذي عرفته المجتمعات الإنسانية، فهو أساس الدفاع عن الإنسان، وجعله كرمز في ذاته، لأنه هو الذي يبني العلاقة القوية بين واقعه الخاص، والواقع الذي يبنيه، وهذه التمثلات الإدراكية لا يعيد الحضور العيني للفعل السياسي أو الحزبوي، بل يعمل على إثارة التوسع الجدلي بين الأنثى/ والذكر وبين السياسي/ والثقافي، فقوة التذكر والتذكير يبعث حضوره الذكوري، كبعد أيقوني يرتبط بالقوة والرمز وهذا الرمز الذكوري هو إشارة إلى المدلول (الخطاب) والمرجع (الموجود) والدال (الصمت عند المرأة) مما يخلق للسلطة ذكورية بالقوة في المؤسسات الانتخابية وبالرمز والإشارة في الأبعاد التعاقدية.
إذن ما موقف المثقف من السياسي؟ سؤال لا يمكن للفكر أن يرحل إلى الماورائيات حسب هوسرل، بل يستطيع أن يصور هذه الحياة كنظام فكري ورمزي وأسطوري لأنها عبارة عن صيغة حقيقية يوجد فيها السياسي والحزبوي، باعتباره عنصرا ينبغي التوقف عند ملامح التنظير وعناصره كلها تنضفر في النهاية بما يحقق توجهها الأولي في استخلاص معرفة متماسكة ومنسجمة بعيدة عن الايديولوجيا الطوباوية.
ويقول يورديو في هذا الصدد “إن الذين بشجاعتهم السياسية وتقززهم من كل ما هو شعبوي يدعون إلى الامتاع والتقشف، المرونة وعبادة العلم، فلاسفة وغيرهم من مثقفي الفرجة المستعدين لتقديم أفكار ظريفة كمساهمة مهمة في الثقافة”(8).
تكمن حقيقة السياسي في تصورنا في كونه جملة مسارات متفردة، وأحداثا مترامية ومتزامنة ومنفلتة من كل قيد أو شرط، حيث ينتهي إلى وحدة عامة هي ما يمنح لكلامه المعنى والقيمة الغير البريئة، وبالتالي فالخطاب عنده ليس هو هذا الفكر الذي يملكه المثقف، وليس عبارة عن سلسلة من اللحظات المثالية التي يفضي بعضها إلى بعض وفق لمبدأ المنفعة، وهذا ما يفسر امتلاء الأحزاب بالمفاهيم القادرة على الهيمنة والانجذاب للمتعاطفين أو المنتمين، أو المستضعفين، لذا فهي توليفات خرائطية متزامنة غير ملتزمة بقضايا الإنسان ولا بحريته، ما يهم الأحزاب هو الوصول إلى القمة وفق الحدث رغم النزعات التاريخية التي تقتل براعة الخطاب، والفكر، والوعي، أحزاب لا ترقى لإدراك البعد السوسيو اجتماعي لا تسمع لأسئلة المجتمع الجديد، رغم أن الفكر المركب كما يقول ادغار مور إبداع واصطناع لإمكانية بكر غير مسبوقة، لكن هذه الأحزاب السياسية لازالت تجعل من هذا الإنسان عبارة عن إناء يملأ بالمعلومات وبالأوامر والنواهي، وهنا يطرح السؤال التالي:
هل المواطن قادر على فهم ايديولوجية هذه الأحزاب؟ وماهي مرجعيتهم؟ وهل في برامجهم بعدا ثقافيا؟ فهذه الأسئلة هي عبارة عن جدلية التي تحث استعمال المنطق الجدلي لفهم السياسي ومؤثراته في الشؤون العامة، لذا لا يرى في الثقافي إلا السفسطة وكثرة الترهات، لذا فرؤيته هي الصحيح حسب منطقه، لأنه يتساوق مع الفني، والفكري والعلمي هذا هو السياسي، وأما المثقف فهو لا يسير على نفس الوثيرة التي يسير عليها هذا السياسي، فهو لا يصدر الأوامر والنواهي كالفقيه أو السياسي السلطوي؛ بل يستخدم عقله كبعد إبستمولوجي نقدي من أجل مقاربة هذا المجتمع كما يقول علي حرب في كتابة (مداخلات)؛ لأنه هو القادر على تفكيك أغلب المقاربات الفكرية والسياسية برؤية نقدية لا تدخل في المجال التقليدي(9)
فالمثقف يندمج في هذه المجتمعات من موقع التحلل المفكك والمختلف، لأنه يهمه أن يفجر المسكوت عنه في كل الخطابات الحزبوية وهذا ما رأيناه في كتابات محمد عبد الجابري، حيث فتح جبهة جديدة ضد كل المنظورات المذهبية الجامدة، من أجل استكشاف مناطق غير مألوفة، إن هذا الموقف هو زحزحة بعض الثوابت السياسية الحزبوية التي تعتمد الدوغمائية وتسحين الناخب في براثن الأوهام، وجعله يتحول إلى صنم من أصنامهم، رغم أنها تنادي بنهاية المثقف، والدعاية، ولكن رغم هذا التبشير العرضي الذي ينادي به السياسي، فإن المثقف يظل دوما واقفا أمام هذه الترهات التي ينادي بها السياسي، وهذا الوقوف ضد أوهام السياسي يجعلنا نقترب من هذا المفهوم “المثقف” إنه ابن لحظة معينة في تاريخ الغرب، مرتبطة بسياق تاريخي وحقل دلالي معين ووليد مخاضات الثقافة الغربية في علاقتها بالواقع والبيئة التي أنشأها، أي أنه اختار من البداية أن يكون رسول الحق والحقيقة، ثم مدافعا بلا هوادة عن قيم الحرية إلى مناضل في طبقة أو حزب أو غيرها”(10)
إذن نرى أن هذا المثقف انتهى مع جان بول سارت ليحل محله المثقف المبدع، والناقد فأصبح هو لسان المجتمع المدني، والمؤسسات الاجتماعية، لأنه يرسخ مبادئ الحرية والديموقراطية، والمساواة فهو السامع إلى الواقع، والفاهم صيرورة التاريخ الدي نعيشه، لأن دوره ليس في رفع الشعارات، وحجب الواقع بالخطابات الجاهزة سلفا”(11).
فالمثقف هو ذاك الفنان الذي يشكل السلطة المعرفية، ويبني الحكمة ويرتبها وفق معطيات اجتماعية وسياسية، أما السياسي فتبقى خطاباته مبهمة، وممنوعة التفكير، نظرا لطابعه الإيديولوجي الذي يؤسس بنية مرضية أو باثولوجية لقطاع الثقافة والتربية، فهذه الرؤية في نظري هي العطب الذي نعيشه رغم الوعي الشقي، والسجلات الباطلة، حيث سيظل السياسي مفتقدا للحس النقدي والوعي التفكيكي، نظرا لبصيرته اللحظوية، وإيمانه بالسلطة والمنصب، والمصلحة الذاتية، لأن علاقته بالمثقف هي علاقة مبهمة ومركبة، فيها ألغاز ومصادفات لعبوية، وأن مهمته أيضا تشكيل التحالفات المافيوية، والاستحواذ وإشباع النرجسية الذاتية كما نرى في واقعنا العربي والإفريقي، إذن ما عسان أن نقول حول هذا المثقف الذي أطلقت عليه رصاصة الرحمة على حد تعبير الكاتب السوري – تركي علي الربعيو – فهذا المقال هو قراءة ثانية للربيع العربي الذي يعيش الإزاحة الفكرية وتحويل ايديولوجي دون الارتباط بتقديس أنسجة السياسي الحزبوي، ولا أنساق فكرية ماضوية، فهذا التحول الذي عاشه العرب رغم التطبيع، والاختراق (COVID.19ِ) هي عابرة عن محاكمة نقدية تفتح الأفاق بقدر ما تجدد الأفاق الفكرية، وتبدد الأوهام الحزبوية والنقابة، لأنه لا يمكننا مقاربة واقعنا سوى بلغة باثولوجية تصبو إلى إيجاد علاج جواني لصناعة هذا الواقع الممكن بكل ألياته وتقول خالدة سعيد في هذا الصدد: “ولا مجال هنا لتعداد المثقفين الذين انشقوا عن الأحزاب كانوا في أساسها، بسبب من السطوة الفكرية للحزب ونظريته، والحد من حرية التجديد، كما لا مجال للكلام على القمع الذي مارسه أعضاء اتحادات الكتاب في الأنظمة التي أسستها أحزاب المثقفين سواء كانوا شعراء أو روائيين على زملائهم المبدعين الآخرين”(12).
فالمثقف إذن ينتمي إلى النخبة، أو الصفوة، وهذه الأخيرة لم تستعمل إلا في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين على يد موسكا، وماكس فيبر، وبرايتو فالنخبة تعني من يملك السلطة كما يقول بتنام Putnam – سواء كانوا ضباطا أو رجال الأعمال أو موظفين سامين ويرى برايتو في هذا الصدد: “إن الطبقة التي تحرك المجتمع طبقة قليلة تنحصر في موزعي الثروة والعلم والخبزة” فالنخبة مختلفة عن الجماهير كما يؤكد برايتو، لذا نجد موسكا بدوره بين النخبة والجماهير ويعبر عن ذلك حتميا على أن الشعب قد يحكم نفسه عن طريق انتخابه للنخبة الحاكمة للنخبة الحاكمة، لأن الشعب بمجرد انتهاء عملية الانتخاب سوف ينفصل عنهم، حيث يفتقدون كل سلطة على منتجبيهم”(13)
فالسياسي لا يستطيع أن يستوعب تناقضات المجتمع، ولا أصواته، لأنه لا يملك سلاح المعرفة الاجتماعية، فهدفه هو السلطة كما قلت ورفع الشعارات قصد التمويه وتحصين الطغيان، لأن الخطاب السياسي العربي يتميز بالتناقص بين القاعدة والقمة، فليس الحاكم وحده مسؤولا عنه لقد أسهم المثقفون المحزبون والمواطنون في صياغته، كما قاموا بتسويق البرامج الحزبية وتقول خالدة سعيد “لقد سقط هذا الخطاب الآن، وكشفت خواءه الوقائع التي لا ينفع معها تأويل ولا تسويغ”(14)
إذن فالسياسي يستخدم القناع كلما انخرط في محيط العلاقات الاجتماعية، وبلغة الأخلاق فإن الأمر يتعلق بالإكراه على الكذب طبق عرف مشدد، وبالكذب بطريقة جماعية مكرهة للكل”(15).
إذن فسؤال السياسة هو سؤال التجديد بدل الترديد وطموح التنوير، بدل التقديس والتجميد، طمعا في شق مسلك جديد في التفكير والنظر، ورسم طريق مغاير في البحث والتساؤل على نحو يراعي مقتضيات الوقائع والأحداث، وتدجج المعرفة السياسية والمعرفة التأملية لكي يتوافق مع منطق الواقع الممكن.
وعلى هذا الأساس فإن النهوض بمسؤولية النقد الثقافي أضحى أمر لا خيار فيه بالنسبة لكل من يمارس الثقافة ومهنة التفكير الموضوعي، فالمثقف ينبغي أن خوض التجربة التعقلية لأجل الخروج من دائرة التحرب والنقل بنا إلى أفق الثقافة بجانب المشروع السياسي المعقلن والمؤسس على دعائم النظر الحر، وتأسيس حوار متفاعل من أجل تجاوز كل حراس الجهل المقدس، وكل أصنام الأحزاب، الأمر الذي من شأنه أن يفتح المجال لبروز التعدد والاختلاف المنهجي والفكري، من حيث أنهما مؤشران على فاعلية المثقف ودوره في بناء القارة المعرفية، لذا حضي عصرنا الحالي باهتمام ملحوظ من طرف المفكرين والباحثين، حيث وجهوا سهامهم الفكري إلى البحث في محددات الواقع وخصائص هذا الكائن الحي العاقل المتأمل الواعي، حيث اعتبروه أشرف المخلوقات، لذا فمسألة الاختلاف بين السياسي والثقافي هي مسألة حاصلة منذ العصر اليوناني، والروماني، وعصر النهضة والحديث المعاصر.
الهوامش:
(1)- نيكوس بولانتزاس، “السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية”، – ترجمة عادل غنم- دار ابن خلدون – بيروت، 1983، ص: 49.
(2)- نيكوس بولانتزاس، “السلطة السياسية”، ص: 36.
(3)- بولانتزاس، ص: 56.
(4)- رضا الداوري الأردكاني، المفكر الغربي والحضارة الغربية، دار الهادي 2004، ص: 72.
(5)- Jean W .La pierre le pouvoir politique paris. pvf-1959 p.25.
(6)- لابيير، المرجع نفسه، ص: 86-87.
(7)- كارل بوبر، بؤس الايديولوجيا، ترجمة عبد الحميد صبره، ص: 54 – 55.
(8)- لويس بينتو، نظرية العلم الاجتماعي عند بير يورديو، ترجمة – محمد أمطوش، عالم الكتب الحديثة – الأردن – 2014، ص: 210.
(9)- محمد شوقي الزين، إزاحات فكرية ومقاربات في الحداثة والمثقف، منشورات اختلاف، ص: 84.
(10)- محمد شوقي الزين، المرجع نفسه، ص: 85.
(11)- شوقي الزين، ص: 88، المرجع نفسه.
(12)- خالدة سعيد، الثقافة والحرية، 2014 – دار التكوين، ص: 72.
(13)- مظاهر خصوصية النخب السياسية، المجلة المغربية، ع 9 – 10، ص: 5 – 6.
(14)- خالدة سعيد، الثقافة والحرية، ص: 130-131.
(15)- تنشية الحقيقة والفهم، دفاتر – فلسفية ، ترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، ط .. 1996، ص – 66.