يوم حموم القط (ميشو)

صبري الموجي – مصر

 

في زيارة له لتهنئته بالعيد، وجدتُه مُتقمصا دور الحزن، والذي أداه بمهارة، فانطفأ وجهُه، ولمعت عيناه، كما لو كانت قد تحجرت في مآقيها الدموع، وانخفض صوتُه، يظنه الرائي فَقَدَ عزيزا عليه .

كان حزنُ ياسر الشاعر مراعاة لمشاعر ابنه الأصغر عبد الله، الذي تملكته مشاعر اليأس، وملأ البيت بكاء وعويلا ؛ لفقدِ قطِه (ميشو) إحدي عينيه إثر تعرضه لـ(علقة) ساخنة من كلاب الحارة أثناء خروجه للشارع يوما، لتفقد أحوال البشر، والتطلع في الأفق يَمنة ويسرة علي غير علم صاحبه، والذي فوجئ بموائه، وشدة صراخه، فخرج مُسرعا ليراه مضرجا بدمائه، لا تقوي أرجله علي حمله .

حمل عبد الله القط إلي البيت، الذي وقف أفراده علي قدم وساق لحموم القط، وتضميد جراحه وإطعامه وجبة من اللنشون والحليب؛ (ترُم عظمه)، وتُنسيه آثار تلك العلقة الساخنة، التي فقد بسببها إحدي عينيه .

أجاد ياسر دور الحزن، وأداه بحرفية بالغة، أقنعت عبد الله بحزن أبيه، فكان كلما تقابلت عينه بعين ابنه تظاهر بالبكاء، وما إن ينصرف ابنه لبعض شئونه يضرب كفا بكف متسائلا : ( ها نصرف ع القط ولا العيال ؟) .

كان ياسر كلما جلس ابنه بجواره حاملا القط في حجره، يُمرر كفه بلطف علي رأس القط وظهره، فيغمض القط عينيه؛ لشعوره بالأمان، وبمجرد أن يراه منفردا يهم بركله، لكنه سرعان ما يُحجم عن تلك الفكرة العدوانية رحمة بالحيوان، وخوفا من غضب ابنه.

وفي هذا الجو من الصراع النفسي عاش ياسر ولا يزال – فكان الله جاره -.

ولصديقي ياسرُ مواقفُ عديدة تُثبت أنه جمع إلي ورعه ذكاء وظَرْفا، وخفة ظل وحسن إدارة؛ مما جعله موضع ثقة كلِ من تعامَل معه .

في إحدي الإجازات الصيفية، خرجتُ ومجموعة من الأصدقاء بصحبته للعمل بمعارض (الريان) بعين شمس، والتي أقيمت لتوزيع سلع للمودعين بدلا عن مستحقاتهم المالية؛ وذلك لتوفير مصاريف السنة الدراسية اللاحقة.

كان ياسرُ أكبرَنا سنا، وأحسننا تصرفا، فتولي تدبير شئوننا وتوزيع مهام العمل بالمعرض، وبألمحيته المعهودة علم أن وقوفنا جميعا بالمعرض للتعامل مع الجمهور، وتعريفه بأنواع السلع، وبلد المنشأ، وكيفية تشغيل الأجهزة، وأسعارها، لن يكون مُجديا، إذ إن الراتب سيكونُ ثابتا، وهو ما لن يفي بمتطلبات الإنفاق والتوفير.

خرج ياسر في جولة تفقدية بالمعرض للبحث عن مصدر دخل آخر، ووجده في (العِتالة)، والتي تعني تحميل بضائع المودعين لسياراتهم الخاصة، نظير (البقشيش)، والذي سيوفر لنا دخلا كبيرا، يُمكننا من الإنفاق والتوفير معا.

أسالت فكرة العتالة وما تُدره من دخل لُعاب ياسر، وهيهات أن يكون (عتَّالا) لضآلة جسمه، وقصر طوله، فصعد مُسرعا إلي مقر تجمُعِنا يفتشُ عمن يصلح لهذه المهمة الشاقة والمُربحة معا، تماما كما لو كنا في سوق النخاسة، فوقعت عينُه علي رجب، وعلي (وزة)، وأقنعهما بالفكرة بعد أن عدّد لهما مميزاتها، وما ستُدره علينا من دخل.

قبل الشابان المهمة، فتمرغنا في نعيم (البقشيش) من الزبائن، وتوافرت معنا سيولة مادية، انتفخت بها جيوبنا بجانب مصاريفنا الشخصية بفضل ذكاء ريس الأنفار.

واختير للعمل بالمعرض من لا حول له ولا قوة، ممن كانوا جلدا علي عظم، وكنتُ أحدَهم، بالإضافة إلي مسعد، وياسر، وشهوان، الذي كان اسمه مثار جدل كل من سمعه، وهرب منه بالتخفي بكنية أبي عبد الرحمن .

أما مُسعد فرغم أنه كان وسيما قسيما ذا عينين خضراوين، وعود فارع، إلا أنه كان كسولا، يلزم خيمة الاستراحة دائما، ولا يخرج منها إلا إذا كان الزبون سيدة من سيدات الأحياء الراقية، اللائي يمتزن بـ(البارفانات) العالمية، واللسان(المعوج)، فيدب الدم في عروقه، ويبدو أكثر حيوية ونشاطا.

كنتُ أعلمُ أن مسعد – تماما كشهوان ورجب – لا يحب اسمه باعتباره اسما قديما لا يتناسب مع جمال وجهه، واستقامة عوده، اللذين كانا كفيلين باختياره نجما سينمائيا لو وقعت عليه عينُ أحد مكتشفي النجوم، لهذا اعتدتُ أن أُردد اسمه مرارا مع الضغط في النطق علي الميم المضمومة فأُثبتُ واوا حيث أقول : مووووووسعد، وهو ما يجعله يجن جنونه، وتثور ثورته، ويأوي ورائي لخيمة الاستراحة يشكوني لـ(ريس الأنفار)، الذي يمتص غضبه بحلمه المعهود، وذكائه المفرط، ويقول : (ها نلاقيها من شهوان ولا من مسعد، ولا من رجب .. أرجوك اخطف الميم في النطق ولا تُغضب مسعد) .

أو ناده باسم آخر مثل تامر أو هيثم أو وائل، ثم يلتفت لمُسعد متسائلا هو الآخر مع الضغط علي الميم المضمومة مثلي : مبسوط كده يا موووووسعد؟.. فنضحك جميعا .

كان ذكاءُ ياسر يصاحبه كرمٌ فياض، فكنا نأوي إليه لننعم بما لذَّ وطاب من الفاكهة التي كان يتاجر فيها والده رحمه الله.

ولأنه كان ذا لسان طليق، ولغة فصيحة، فدائما ما كان يقع عليه الاختيار للتعليق علي مباريات كرة القدم، التي يستمتع فيها الجمهور بتعليقاته (وقفشاته)، وليس بالمباراة.

إضافة إلي هذا، تتعدد مواقف ياسر الطريفة أثناء عمله بالتدريس ، وهذا ما سيكون له حديث آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى