شعرية الومضة في “ مكابدات الحافي “ للشاعر عبد الأمير خليل مراد
أ.د مصطفى عارف| ناقد وقاص عراقي
لا بد في البداية من التنويه بأن قراءتي النقدية حول قصيدة الومضة لا يعني ادعاء تأسيس جنس أدبي جديد،أو انبعاث شكل شعري مغاير تماماً لكل ما كتب من شعر في المراحل التاريخية المختلفة، ونحن من القائلين بوجود كتابات كثيرة في هذا الحقل وإن اختلفت التسمية، كما إننا مع الرأي القائل أن تجربة القصيدة الومضة هي خلاصة صافية لتراكمات عديدة في النصوص الشعرية العربية، وليست تأثراً أو نقلاً عن الغرب كما قد يظن البعض من دارسي ومبدعي هذا الشكل الشعري، وكل ما في الأمر أن ثمة تأكيداً مشتركاً من الشعر العربي والغربي الحديثين على الإكثار من كتابة هذا الشكل الشعري، فضلا عن التهليل النقدي له، وهذا أمر لا يمكن إغفاله في النصف الثاني من القرن العشرين.
ومن هنا فإن وضع تعريف دقيق لقصيدة الومضة أمر غير هين في ظل الاختلاف الكبير على تسميتها: اللقطة، التوقيعات، الهوامش، وعلى حجمها، وضوابطها الفنية والبنيوية، والومضة لغةً من وَمضَ وومضَ البرقُ: لمع خفيفاً، و أومَضَتِ المرأةُ: سارقتِ النّطر، وأومضَ فلانٌ: أشار إشارة خفية, وفي هذا المعنی شيءٌ مِن اللّمعان, والتلالُؤ, والتألُق, والإشراق, والتوهُّج و فيه شيءٌ من الإدهاش، والتشويق، وفيه شيءٌ آخر من الشفافية، والغموض الآسر, وعدم الايضاح لکلّ شيءٍ, وفيه شيءٌ آخر مِن التکثيف والاختزال، والاقتصاد اللّغويّ وقد قيل: البلاغة هي الايجاز, کما قيل خير الکلام ما قلَّ ودلَّ, ويتداخلُ مع معني الومضة، البرقية ولذلك يقال: القصيدة البرقية، القصيدة الومضة و هي قصيدة مکثفة, و مختزلة جدّاً, وقد تجسدت سمات الومضة في شعر شاعرنا المبدع عبد الأمير المراد, وقد ادخل التناص الديني, في قصيدة الومضة، فنراه يقول :
زمن من عهد نوح
والسفينة
قذفت أحشاءها , أي خطيئة
حذف المعول ظلي
واستباح الأمل الخادع حراس
المدينة
وهي بهذا المعنى قصيدة دائمة الإنتاج، ودائمة التخلّق، لأنها تتموضع ظهوراً، وغياباً، في شؤون شتى، مستمرة في صيرورتها، ولأنها متحركة وقابلة لأكثر من زمان، ومكان بسبب من طاقاتها الخبيئة ضمن بنية شديدة التكثيف، ولأن فاعليتها متولدة من ذاتها النصيّة، فهي شكل من أشكال الإنجاز اللغوي الشعري، تتمتع بنظامها الخاص، ولغتها الوسيطة بين طرفي المعادلة الإبداعية الشاعر/ القارئ، فهي عمل شعري يسعى للتفرد، والقصيدة الومضة عليها أن تتمتع بخصوصية تمكّنها من ممارسة تغريب نسبي، وفعل استلابي، وقلب لأفكارنا، ولمدركاتنا، ولتعابيرنا المعتادة، ولذائقتنا الشعرية المعتادة على أنماط، وأشكال معينة, وخير دليل على ذلك ما نظمه شاعرنا عبد الأمير في مجموعته الشعرية (مكابدات الحافي).
ولعل من النافلة القول هنا أن هذا الأسلوب الفني يتفق مع فن الابيجرام الذي هو فن شعري نشأ في ظروف مشابهة لما مربه الشاعر عبد الأمير منذ مئات السنين في أوربا , وهو فن ذو أصول قصصية, وكان في البداية يكتب على شواهد القبور, وعلى هدايا أعياد الميلاد, وعلى التماثيل ,وعلى الرسوم التذكارية, وعلى مذابح الكنيسة, وقد رأى فيه النقاد رمزا أو أشارة أو علامة أو شعارا ومن ثم صار فنا قائما بذاته بعد أن تغيرت دلالاته فراح يظهر في الثورات ,والانقلابات ,والإصلاح الاجتماعي, ومن مميزات هذا النمط الشعري الفنية , هي اتصافه بالوحدة العضوية والاقتصاد الشديد باللفظ, فضلا عن اعتماده على الطرفة والمفاجأة القصصية أو انه ينتهي نهاية لاذعة أن لم تكن فاحشة, وغالبا ما ينظم للسخرية من أحد الخصوم والتهكم عليه, وقد كتب به معظم أدباء أوربا كالشاعرين الألمانيين غوته , وبريخت
ونجد شاعرنا عبد الأمير قد قلد هذا النوع الشعري , فنراه يقول :-
وستبقى أمنياتي حلما
وحجولي لم تدر ثانية
إلا على وقع الخطايا
والعبر
إن هذا الأسلوب الفني يذكرنا بالبيت المفرد السائر أو الشارد أو الأوابد في القصيدة العربية القديمة, فالشاعر العربي القديم كان يسعى إلى أن يجعل قصيدته كلها عبارة عن أبيات شاردة، لا بل سعى بعض الشعراء إلى جعل الشطر الواحد بيتا شاردا لوحده كأن يسري مثلا بين الناس أو حكمة أو ما شابه ذلك, وهذا جعلهم يعيبون التضمين في الشعر, وكل ذلك ليسهل حفظه ويشيع بين الناس, فهو في الصدور اثبت وفي المحافل أجول, وأحسن الكلام ما كان قليله يغينك عن كثيره. واستطاع شاعرنا عبد الأمير المراد الخوض في هذه التجربة الغربية ,وإدخال التناص الأدبي مع بيت الشاعر الكبير المعري , فنراه يقول :-
خطوتي أولى وان كنت الأخير
وزماني محض آهات ستبقى
وجروفي مدد في كل
نجوى
ونجد القصيدة الومضة عند شاعرنا عبد الأمير أشبه ما تكون قصيدة مكتملة المعنى، مبتكرة في فضاءات لغتها، وهي ذات فكرة متوهجة، وتقنيات متداخلة، ومتضافرة، وتستفيد من أشكال فنية متعددة، الفن التشكيلي، والموسيقى، والتصوير السينمائي كـــما أن عليها امتلاك قدرات تعبيرية ثرّة، عائدة للركازة الرمزية التي تكتنزها البنية المختزلة لها، وكذلك لخروجها خروجاً خلاّقاً لا تخريبياً على النمطية السائدة من الأشكال التعبيرية الشعرية المقيدة بالوزن, والقافية, والإسهاب ومطرزات البلاغة, والبنى الهيكلية المعتادة من جهة، ولتخلّصها من هيمنة الأسلوب الواحد الذي كانت غالبية النصوص القديمة ملزمة بتقديمه.
إذن فهي نصٌّ أشبه مايکون ببرقٍ خاطفٍ يتسم بعفوية و بساطة تمکنه من النفاذ إلی الذاكرة للبقاء فيها معتمداً علی ترکيزٍ عالٍ وکثافة شديدة مردّها انطباع کامل واحد مستخلص من حالة شعورية أو تأملية أو معرفية عميقة إذن فهي تتوفّرُ علی الترکيز والغنی الواضح بالايحاءات ,و الرّموز وتدفقُ رقراق و انسياب عضوي بديع لوعي شعريّ عميق, فالشکل نصٌّ مختصرٌ مختزلٌ بأعلی قدرة للاختزال ,فنراه يقول:-
أنا بشر الحافي
لا اشبه نرسيس ولا ميدوزا
ولا اشبه نابليون ولا الحجاج
ومراياي نواح في ليل نشور
نص قصير جدا يتألف من أربعة اشطر, وهو النص الوحيد الذي يحظى بعنوان من كلمة واحدة هي بشر , والكلمات موزعة على هذا النحو أربعة اشطر ,وفي الشعر كثيرا ما تكون الإشارة أكثر دلالة من العبارة , وهو ما يجعلنا نتحدث بحذر عن أن الشعر الحقيقي ما هو إلا قول أشاري , ودلالته الموجزة تغني عن التفاصيل, والاسترسال في الشرح, والتفسير, وفي المقطع القصير السابق يتألف المعنى ,والكلام , وتستيقظ تراجيديه الواقع قادمة من أعماق الزمن القديم بأقل قدر من الكلمات , واقل قدر من المكان , وهي قصيرة جدا تقتصر على بعض الكلمات, إلا أنها مُعبأة مشحونة بثقافة فكرية، وحتى إيمانية تمتد -فلسفيا- إلى الفلسفة اليونانية وكذلك إلى أسبقية الكلمة عند المسيحيين ,والمسلمين, ففي البدء كان للكلمة بشر, فتحت عنوانا لبشر يستهل عبد الأمير, وتتجلى قدرة الشاعر التصويرية في الإتيان بشعر يقوم على تداخل بين الحسي ,والمجرد في نسج مجازي متتابع متحرك, يقول داخلا في عالم عراقه العزيز.