عن الولد، عن صلاة الفجر… إلى محمد أبو خضير

خالد جمعة – فلسطين

يا مُحمَّدُ
تُخرِجُ يديكَ من التابوتِ لتضعَ لمسةً أخيرةً على رسمتِكَ الأخيرة، تتألمُ قليلاً من حركةِ الساعدِ، وتغمضُ عينيكَ من وجعٍ لم تخطِّطْ له، من هؤلاء الذين اجترأوا على صلاتِكَ؟ هل لهم أسماء؟ هل لهم دفترُ مذكّرات؟ هل لهم قدرةٌ على لفظ الكلامِ دونَ أن يصرخوا؟
تُخرجُ يديكَ من التابوتِ، وتنعفُ خيالاتِكَ الصبيانية على الحاضرين، تلقي بأحلامكَ في ساعة التشييعِ كي لا تضيعَ الأمنياتُ مع الريح، وتتركُنا نستردُّ أنفاسَنا ونفكِّرُ في عبارةٍ تصلحُ لك، نتفكَّكُ في المرآةِ ونحن نرى صورتكَ بدلاً من وجوهِنا، نكادُ نُجنّ، نمسحُ المرآةَ، نشعلُ ضوءاً آخر، لكن الصورة هي ذاتها، فنكسرُ المرآةَ فيصيرُ وجهُكَ ألفَ وجهٍ كعدد الشظايا، فنجنُّ.
يا مُحمَّدُ
يسيلُ الأذانُ ساحراً في بردِ الفجرِ…
تخرجُ كحاسةِ شمٍّ غربَلَتْها المسافةُ بين بيتِكَ والمحراب، توزِّعُ أدعيةً على حجارة الجبل، على الأرصفة، على الهواء الخفيفِ، على مؤامرةِ الأسئلة، وربما أغمضتَ عينيكَ لحظةً كي تثبتَ أنّكَ تحفظُ الطريقَ إلى الصلاةِ غيباً، ما كان يعجبُكَ أن يقولوا “إنّه طفلٌ”، وصدَّقتَ أن الحياةَ فتحتْ لك خارطةَ بساتينِها، وربما وقفت إبنةُ الجارِ وهي تعدُّ السحورَ لأمِّها التعبى، تسرقُ نظرةً إلى خطوتِكَ الأليفة، وترسمُ خططاً للأيّام، ربما كنتَ تقاومُ نعاساً يحبُّ اللهُ أن تتركَهُ من أجله، لكنّكَ اختفيتَ في الأمتارِ القليلةِ بين بابِ البيتِ وبابِ السماء، وصدّقني إنها ليست مسافةً نعرفُها كي نبحث عنك فيها، كلُّ ما في الأمرِ أننا الآنَ، الآن فقط، حزينون وغاضبون، وكما عرفتَ في سنواتِكَ القليلة، الحزنُ والغضبُ يقتلهما الوقتُ، ووقتُكَ الآن، ما زال طازجاً، وصغيراً على القتل، وسيبقى على ما تركتَهُ عليه، لأن وقت الشهداءِ لا يتغير.
يا مُحمَّدُ
قُلْ لنا سرَّكَ الكونيّْ، أو اكشف لنا عن لغز الحمامات التي طارت قريبةً منك في تشكيلٍ دائريّ، قل لنا أيَّ شيءٍ لنقولَهُ لمن يسألنا، قل لنا شيئاً يجعلنا نبكي على الأقل، اشتمنا، أخرج لنا لسانكَ، اطلب شكل جنازةٍ مستحيلة، اصرخ مثلاً، إفعل أي شيء، ولا تتركنا منفيين ومخذولين أمام أنفسنا مثل فراخٍ فقدت أمهاتها، لماذا لا تقولُ شيئاً؟
يا مُحمَّدُ
ليأخذوكَ، ليحتموا بكَ منكَ، سيجيء يوم، سيخرج الشهداءُ من خواتمِ أمهاتهم ضاحكين، ينفضون الموت الذي بلا ذكريات عن أكفانهم، سيعودون جميلين بأجنحة خضراء، بدون أي خدش على جلودهم، ستكون البلادُ وقتها برتقالة في ضوء شمسٍ برتقالية حدّ الغروب تماماً، سيختفي الأعداء تماماً، وسنحتار في تسمية الشوارع من جديد، وسنختلف على شكل الدولة، وعلى ما سنعلمه لأطفالنا، وسنلوم من لم يصدق ذلك، لكننا سنغفر له كما سنفعل مع كل شيء.
يا مُحمَّدُ
هذه القِمرياتُ التي تعبئُ السماءَ منذ الفجرِ ليست عبثاً، وهذه الأشجارُ الطويلةُ التي نبتت فجأةً في الشوارعِ ليستْ معجزةً، وهذا الماءُ الذي يجري في عروق الصحراءِ في فصلٍ لا مطر فيه، ليس غريباً، فكلُّ شيءٍ ممكنٌ، وكلُّ شيءٍ مستحيل، والمحزنُ في الأمرِ، أنّكَ لن ترى هذا كلَّهُ، لأنَّ دبّوساً إلهياً ثبَّتَ عمرَكَ تماماً عندَ تلك اللحظةِ من صلاة الفجر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى