الغواية والهداية.. حين ينكر العقل ذاته أو يصدقها

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

      “يهدي الله لنوره من يشاء”، هذه قضية ربما تكون قضية جدلية، قضية الهداية والغواية، و لا نخوض فيها كما خاض المتكلمون والمتفلسفون والقدريون.. لكن كما تناولها القرآن وبينتها السنة، ولا نخرج عن هديهما قيد شبر، فإن من خرج عن منهجمها أوشك أن يصرف عن طريق الهداية ، إلى طريق (الغواية)، ويخشى بعد ذلك ألا يعود ..

     هذا النور هو نور الوحي المنزل الذي يستقبله العقل (الوحي الفطري) كما سماه الإمام الغزالي، ولولا التقاء الوحيين من الداخل والخارج، وانسجام الفطرة مع الفكرة لنفخ كل ناعق ببوقه، وصدح كل دعي في الآفاق ، فلم يتبين لذي لب “أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟..

     ولكنه الحق يقذف به على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ويأتي عليه من أسفله فيجتثه فما له من قرار.. كما  نرى في خبر مسيلمة (الكذاب) هذا الذي لحقته وصمة الكذب حتى قيام الساعة، وذلك لما نعته الصادق صلى الله عليه وسلم بها ..  يقول له أحد أتباعه من الأعراب حين كان يهرف بقرآنه، ويهذى بخرفه .. يقول له “أشهد إنك لكذاب، وأن محمدا صادق.. ولكن كذاب ربيعة خير من صادق مضر”، وهذا حينما وازن هذا المتبع الضال بفطرته، بين وحي الحق،  ووحي الشيطان، فلم ينسأ أن نعته بالكذب رغم اتباعه له .

     هذا الوحي الذي لا يترك العقل المسلّم له في حيرة من أمره تتخبطه الظنون، أو تزلزل حجته دعاوى المبطلين أو المرجفين، إنما يقذف في قلب صاحبه من قوة الحجة البالغة، وبلاغة المنطق، ومضي الأمر ما يثبت به أتباعه، وينصر به أولياءه، ويقف لكل منطق منكر أو معاند بقوة الحجة وظهور الأدلة وبيانها كرائعة الشمس لا نضار بها في وضح النهار..

       ومن هنا فقد ثبت صلى الله عليه وسلم لقومه حين عرضت عليه مفاتيح السيادة ، والقيادة ، والغنى، فأبى إلا أن يثبت حتى يظهر أمر الله أو يهلك دونه ، وماكان ذلك حتى ثبته الله فبلغ رسالة ربه وقد عصمه من الناس، وأيده بالوحي ” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)”الفرقان.

       إن العقل حين يعمد إلى إنكار الحق، وجحوده، فإنه ينكر بذلك نفسه ؛ إذ الحق لا يتنافى مع العقل ولا يصطادمه، فالحق يطابق عقل النفس ويوافقه، ويجد العقل له صدى في نفسه، وداعيا إليه من داخله، حيث الفطرة السوية، التي جبلت على الحق، وفطرت على معرفته .

       وقد ذكر القرآن حال المعاندين المكذبين بشيء من هذا التصوير البين الذين ينزع فيه العقل إلى إنكار الحق ، وهو على يقين بصدق ما يعرض له، فكأنه يخالف فطرته (بديهته) ويكذب بها ، فقال الله لنبيه”قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)” الأنعام.، والمعنى هنا الغالب “أنهم لايكذبونك بحجة واضحة أو بينة” ولكن جحودا بالحق وانصرافا عن حجيته، وهو الذي ذكر في موضع آخر “ظلما وعلوا” ، كما في( سورة النمل) “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)” النمل.

      هذا اليقين الذي حدّث بالنفس من داخلها (العقل)، فأيقنت أنه الحق، وقد أحاط بها من خارجها وهو الوحي مؤيدا بالآيات المنظورة، قد أمنت به عن يقين قد طلبه العقل فوجده، وتحرى صدقه ، واختبر حجيته، فلم يجد بدا من التسليم بعد أن (استيقن)، ثم أعرض وأنكر .. وبذا فقد انقلب على وجهه فخسر الدنيا والآخرة ، وكانت دلائل الهداية تلوح له من كل وجه، وتدعوه أئمتها على الصراط “أن أقبل”، فيأبى إلا أن ينكس على رأسه، فيخسر دنياه وآخرته .

     إن العقل حين يترك وحده  هائما على وجهه، ينزع أن يبحث لنفسه عن هدى يعتصم به، أو حصنا يأوي إليه من تخبطات الأفكار وانحرافات الفكر، وهذا الهدى ، وهذا الحصن لا يكون إلا من الوحي الذي يجد فيه ضالته، ويرى فيه صورة نفسه الفطرية التي يؤمن بها ..

     وقد ذكر د. عبد الحليم محمود في كتابه “الإسلام والعقل” قصة بحث بين سقراط واثنان من كبار الفلاسفة في أمر  الموت(فناء الروح والجسد، أو فناء الجسد وخلود الروح)، وقد أجمعوا بعد البحث على خلود الروح بعد فناء الجسد،.. ثم شبه أحدهم الضرب في الميتافيزيقا (أو ما وراء العقل)، بالإبحار في المحيط بأحد صورتين : الصورة الأولى في سفينة يعبر بها من شاطىء إلى شاطىء في أمان وطمأنينة، وهو سفينة (الوحي)، أو يعبر على لوح من خشب معرضا نفسه للهلاك، وقد لا يصل وهو(العقل)..

      وهكذا فقد علم هؤلاء العقلاء أن العقل لابد له من سفينة النجاة وهي الوحي، التي تنقله من عالم التيه ، إلى عالم الحقيقة المطابقة لذاته ، والقادمة من نفس طريق قدومه ، وبذا يتحقق ال”نور على نور”، أو يحدث الفصام ويغلب داعي الهوى داعي الهدى ، ويسير العقل إما أعرجا بقدم واحدة (طريق إيمان الفلاسفة)، أو منكبا على رأسه (منكر الوحي والعقل).

    “سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)” الأعراف.. هذه الصرفة كما قال الفخر الرازي: لا يحمل الكلام على ظاهره ، وإنما المعنى أنها كانت جزاء لهم جراء تكبرهم بغير الحق، وفسقهم الذي ذكر في الآية قبلها،كما كانت عقابا لهم عن إعراضهم عما رأوا من سبيل الرشد والهدى فأعموا عنه، وكانوا (غافلين )، ومن سبيل الغي والضلال فاستروحوا فيه .. وذكر القرطبي أن مالك بن دينار قرأ “يروا” بضم الياء في الحالتين ، أي أعلموا من واقع النظر والعقل ما يدلهم على سداد الطريق وصدق الآيات، فنكبوا عن الصراط.

       وهذه الصرفة التي جعلت بمثابة العقوبة للإعراض والنكوص، لابد أن يقابها على طريق الإجابة والتلقي بالقبول والرضا جزاء آخر، ألا وهو الإفاضة عليهم من أنوار الهدى ما يثبت أقدامهم على الطريق، ويلهمهم التقوى، “والذي اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ” محمد(17).

       وهكذا .. لا يأل القرآن يخاطب العقل، ويذكره بعهده الأول، وما فطر عليه، وما علم من الأسماء .. يستثير فيه ولاءه للربوبية، ويرفع من قدره حين يلوذ بهذا الجناب العظيم، لا يخيب من والاه، ويحذره من معاندة الفطرة واتباع الهوى، والإعراض إلى سبيل الشيطان ، فهو الخسران المبين في الدنيا والآخرة “وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)” الزخرف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى