أحزان حبيبة
يكتبها : محمد فيض خالد
في وقتٍ لم أكُن فيهِ غَيرَ قِطعةٍ من اللَّحمِ، لُفت في أقماطِها ، تتقاذفها الأيدي في تأففٍ، وتتبعها العيون في اشمئزازٍ، قالت “كريمة”الدَّاية، مع أولى صرخاتي:”تتربّى في عِز أبوها “، قذفتني مُكرَهة لجدتي، التي غَامت الدُّنيا في وجهها ، لتَضعتني فِي غَصّةٍ بجِوارِ أمي التي كانت في سكرةِ، تَندِبَ حظها بوجهِ مأزوم :” بت تاني ، هو أنا ناقصة بنات يا ربي ؟!”، سَادَ الغُرفة صمتٌ قاتل ، تنادت الوجوه المُكفَهِرة في تأنيبٍ، شهقت جدتي في تضرعٍ ، تتمنى لي الموت على أن ابقى يوما ، عَادَ أبي من الحقلِ ؛ يتَوارى من سوءِ ما بُشِّرَ بهِ، مشت الأيام لم يتغيّر طبعه فضَاقَ بالبيتِ ، كَرِه بكائي ، حتّى أمي ضنّت عليّ بثدييها ، ولولا بقية خشية؛ لتركتني أعاني حتّى يأت أمر الله .
مُبكِرا حَملت زوجة عمي لواء عداوتها ، تتخايل في تعريضٍ وقح ، تسوقَ النّكد للبيتِ وأهلهِ، رُزِقت بأربعةٍ من الذكورِ، تقَولُ وهي بذيئة اللِّسان محلولته:” حبيبة! يعني من قلة الأسامي ؟”، عندها تستجدي أمي الرَّحمة فلا تجدها ، تتردد نفسها بينَ مَهابطِ الأملِ، ومعارجِ اليأس .
أمضيت شطرَ طفولتي ، ونضارة صباي على هذا الأسى، انكفأ والدي أسيفا على أحزانهِ ، حتّى وإن تعلّل ظاهره بالرِّضا ، تلفحهُ نار الشماتة من عائلتهِ ، اطلقوا عليهِ في تبَذُّلٍ ” أبو البنات ” ، رأيتهُ أكثَرَ من نوبةٍ ؛ وقد اخضَلت لحيته بالدُّموعِ باكيا ، مُبتَهِلا أن يهبه الله الصّبرَ ، لينزعَ عنه ثياب الذُّلِ، اعتزلت أمّي نساء الدّرب، ازددنا في تلك الأثناءِ تعلقا ؛ علّها تصلح من نفسها الحزينة، لم يكن أبي ليغفرَ لي خطيئتي كأنثى ، يندمج في تودّدٍ باهت، وتقرّبٍ مصطنعٍ ، سُرعانَ ما يعود لسَابقِ عهدهِ قاسيا كالحجارةِ، أو أشدّ قسوةٍ، منزويا في رُكنِ، ينفثُ دخانه من غابةِ” الجوزة” التي أضحت سلواه ، يطبق دخانه على صدري كَرُسل الموت، تتخطّف روحي بأيديها الغِلاظ ، يغلبهُ النَّوم ؛ فيتمدّد ، يَكادُ يتَميّزُ من الغَيظِ ، لم تشفع لي نباهتي ، في جرأةٍ اعيدُ من فوقِ ظهر الفُرنِ أحاديثَ الراديو وأغانيه، تُغالِبُ الابتسامة وجه أبي الذاهل ، فتتأتى ضحكته نهنهة ثقيلة ، قادمة من أعماقِ جُبٍّ سحيق ، سُرعانَ ما يُكشِّر عن أنيابِ غضبهِ، يفيق مِنْ سكرتهِ، يَتحسّس عصاه التي تعرف طريقها إلى ظهري ، مضت الأيام مشحونة بالأوجاعِ ، تُخالِطُ صدري أمنية عزيزة، كنشيدِ لا أملّ تكراره ؛ أن يرزق البيت الذّكر الذي يُفكّ بهِ أسرنا.
سَاقَ القدر قريبة من الصّعيدِ، امرأة قاسية الملامح ، متحجِّرة القلب ، قَبلَ أن تُجفّف عنها عرق السّفر ، قالت:” عندنا شيخ مبروك لابُدّ أن تزوره” ، عندها برقت عينا والدي كغريق ، بعد هنيةٍ زاره ، عَادَ سريعا تُزايل وجهه ابتسامة لم نعهدها ، لأجدني وقد صحبتهُ في رحلتهِ ، ألبستني أمي ملابسي الجديدة ، اعطاني أبي قطعةً من النَّقدِ ما كنتُ لاحلم بمثلها ، يَسوقني في مجاهل لا أعرف لها نهاية حتّى وصلنا ، هالني مرأى الشيخ ، مَدّ الرّجل أصابعه الطوال ؛ وضَربَ جبهتي، بَرطمَ بتعاويذه المُبهمة، طالعت ملامحه الشيطانية ، وريالته المتساقطة فوق ثيابه؛اشمئزت نفسي ، عدنا للبيتِ ليبدأ مسلسل العذاب ، جردتني أمي من ملابسي ، واحضرت جمرا يتلظّى ،جعل أبي يحرقني بتلك النار ، وسط دعوات أمي :” ربنا يفك العقد على إيديها “، قدّمني أبي قُربانا سَخيا ، اخبره الشّيخ أن في تعذيبي بالنارِ ، ابطالٌ لسحرٍ قديم ، وأنّ الأسياد اختاروني للمَهمةِ ، تُردّد أمي في اطمئنان :” أحسن إنّهم اختاروها ، دي حتّى شبه عمتها فوزية السمرا”، بمرورِ الأيام يئس أبي من علاجهِ ، كما يئست من رحمته .
أمّا أمّي فمع السّنين تعوُدت أذنيها الشّماتة من النساءِ ، انصاعت مُرغمة ، تهدهد سِرا أحلام الأمس .
مدّت يدها “حبيبة” ، حَرّكت مفتاح سيارتها ، بعدما لاحت ابنتها قادمة من بوابةِ الجامعةِ ، استقبلتها بابتسامةٍ منعشة ، ليَذوبَ موكبهما وسط الزحام