مقطع من رواية: قلوب مهاجرة.. عصفور حقل (1)
منى مصطفى | أديبة تربوية مصرية
إهداء
أُهدي هذه الرواية إلى كل مَن له قلبٌ يَنبِض ويَشعُر بالحياة، ويَهوى الجَوَلان داخل النفس الإنسانية التي هي من أعظم الأدلة على عظمة الخالق وإبداعه في خلقه!
مقدمة:
هذه الرواية اجتماعية رومانسية تدور أحداثها في الفترة (من 1980 حتى 2011)، وتعكس جانبا من الواقع الاجتماعي بأفراحه وأحزانه في تلك الفترة، مقدمة حلول من خلال الأفراد لتكون نماذج مرجوة؛ لتجنب بعض المشاكل الاجتماعية والتي يضج بها الواقع من حولنا …
الشخصيات البارزة:
– باسل هو الشخصية الرئيسة دخل حياته ثلاث نساء (علياء، لينا، بتلة).
– ومن الشخصيات الأخرى: محمد وأمل ومعاذ (إخوته).
– مرزوق وصفية: (والداه).
– علي: ( صديقه الأثير ).
– بالإضافة إلى بعض الشخصيات الثانوية التي ستظهر مع الأحداث..
عصفور حقل
كنت…… لا أعرف كيف أنا…………..!!!
فقط أعترف من حياتي بما يُرضيني، أما ما لا يرضيني فلا أراه، ولا أُرسخه في ذهني، ولا أعرف أأنا واهمٌ وحالتي مجرد تجاهُل أم أن هذه نفسي تتعايش ما دامت متصلة بأسباب الحياة؟!
وما أكثر تلك الأسباب التي كنت أصطنعها لنفسي في إقبالي على الحياة! تتنوع بتنوُّع آلامي، وأعظمها تأثيرًا كانت سجدة أستشعر بها رحمة ربي، أو لُقمة هنيئة بعد جوع كاد يَفتِك بأحشائي، أو في منام عميق بعد طول توتُّر – وقليلًا ما كنت أنام – أو جلسة صفاء مع حبيب….
أما الذي لا حياة لي بدونه، فهي ( علياء ) حمراء الوجنين، تشرق بها شمس حياتي، فلا سعادة لي إلا عندما أنظر إلى وجنتيها، فإن وجهها كان صفحة الحياة الوحيدة التي تشعرني بأنني حيّ الروح والقلب، بل صفحة الحياة الوحيدة التي أجد رحمة ربي تَحوطني عندما أقلِّب عيني فيها.
ولا أعلم سببًا لتلك السعادة التي تغمرني عندما أرى تلك الطفلة بل المرأة، بل تلك اللاهية العاقلة، الصغيرة الكبيرة، المقبلة المعرضة، الرقيقة الجافة…
كانت هي الحياة كلها ببرقها ورعدها، بإقبالها وإدبارها، كانت لي دفء الشتاء، وسحابة الصيف، ورياحين الربيع….. إنها علياء أو (حمراء الوجنتين)، كما يَروقني أن أُسميها، كانت ذلك الشعاع الذي تَنقشِعُ بنوره عتمةُ حياتي…، فقبل أن أراها، كنت كثيرًا ما أُنادي نفسي قائلًا: يا باسل، أأنت حيٌّ، أم أنك مجرد حُلم يطوف بهذا الجسد وهو يمارس مهام يومه التي فُرِضت عليه، ولا يهمه من البداية أيُرضيه ما يفعل أم يُزعجه؟!
ومَرَدُّ ذلك أني نشأت لأبٍ لا يَعرف من الدنيا غير نفسه، ولا يرى إلا شهواتها، وكنت مع إخوتي جانبًا من تلك الشهوات، فقد كان يَمرَح معنا، ويُداعبنا، فإن بدا منا ما يُعكِّر صفوَه، تحوَّل إلى وحش كاسر، وكأننا فعلًا مجرد شهوة إن فقَدت إمتاعَها له، قذَف بها إلى أقرب هاوية… فقد كان لا يعرف من الوجود إلا نفسه، يتمحور حولها، وحول ما يُمتعها، لا يَحُدُّه في ذلك حدٌّ، ولا يَمنعه مانع…
كنت في صِغري أستجدي محبته، بل كنت أترقَّب أن ينطق اسمي، وكم أكون سعيدًا في هذا اليوم الذي ينطق فيه اسمي، فكل عاطفة يحتاجها طفل من أبيه، كنت أستجمعها مع صوته وهو يناديني باسمي، وكأني في أعماقي أتيقَّن من أنه يراني ابنًا كائنًا، لي وجود ولي حياة يَحدوها أملٌ…، كان أبي كأمير يسعى كلنا لاسترضائه بالعلو في الفضيلة أو الرذيلة، لا يُهِمُّ، فما يُرضيه هو الحق، وما يغضبه هو الباطل، هكذا علمتنا أمي…
أمي…!
ذلك المخلوق الذي لا يُشبهه شيء من المخلوقات، كانت امرأة حكيمة عاقلة، تَرضى بزوجها وتحاول إصلاحه، لا تَكترث كثيرًا لأفعال أبي معنا؛ إذ إنها تربَّت عند أب يُشبهه، فلم يكن الأمر عظيمًا عندها….، كل أَولوياتها ألا يَمَسَّ كرامتها المتمثلة في ألا يَقترب من امرأة أخرى، فقد كانت لا تحب أن تُكرر مأساة أمها (جدتي) التي عاشت تعاني من نيران الغيرة من تلميح جدي طيلة حياته بالرغبة في الزوجة الثانية، عاشت مُرهَقةً تُراقبه، تَسترضيه، بل تَمقُته أحيانًا إن أكثر من التهديد بهذه الفكرة، وتوفِّيت جدتي حبيسة هذا الوهم الذي لم يجعلها تَهنأ لحظة بحياتها، يُخيل إليّ أنه لو كان تزوج، لهدَأَتْ واستراحتْ من هذا الكابوس، فلا أشد حزنًا لقلب المرء من أن يعيش حبيس فكرة يكتشف خطأها بعد فوات العُمر…
ولكن جدي تزوج سريعًا بعد وفاة جدتي، وكانت أمي تحكي لنا مواقفَ من حياتها مع زوجة أبيها بعد موت جدتي، وكأنها من خوارق ألف ليلة وليلة…، لذلك كان إخلاص أبي لها يَكفيها، وتواجه شخصيته المزاجية بذكاء ودُرْبة نادرة، وكنت أسمعها دومًا تنصح أختي أمل التي تتوسطني أنا وأخي محمد الأكبر، عندما تتحدث إحدى الجارات خاطبةً أختي، أو مُعرِّضة بذلك، كانت تنصحها قائلةً:
إن رأيت زوجك جمرًا تحوَّلي إلى ماء بارد، وإن صار شوكًا كوني له وردة فوَّاحة، تَحنو عليه وتُذهِلُه بعبيرها عن شوكه…..
تبادرها أمل قائلة: لا ماما، لا بد أن يُحسن معاملتي وإن كان لي جمرًا سأكون إعصارًا….، تضحك أمي وتحتضنها وتقول: هذا التلفاز، ما أفسده علينا! وتَمزَحان وتَمرَحان بما يملأ البيت بهجةً تزيل الجفاء والخوف الذي يغرسه أبي في البيت؛ ليثمر التزامًا وطاعة في غيابه كحضوره؛ إذ كان قليل الجلوس في البيت…
مرَّت حياتنا على هذه الحال، حتى تجاوزتُ الخامسة عشرة من عمري، نعيش في بيتٍ متماسكٍ يُغذِّي فيه أبي الجسد، ويُحكِم القبضة، وتُغذي فيه أمي الرُّوح، وتَرسِم الضحكة…
كان محمد أخي قدوتي، غير أني كنت أجرأ منه نوعًا ما، وكانت أمل أُمًّا لي بعد أمي، وكانت مرِحة، مثقفة، قوية الشخصية، تفوقني أنا وأخي في ذلك؛ حيث كان والدي رغم قسوته يَلين معها حينًا؛ مما يبعث في نفسها ثقةً تُعينها على المواجهة….
كانت حياتي هادئة، أَرسِم خُطواتي كرِفاقي؛ نُريد الدراسة، اللعب، المرح، القوة، الظهور، نريد الحب، نريد أن نَصيح في الفضاء، قائلين: إننا كَبِرنا، انظُروا إلينا…، وإذا نصحنا أحد وقعت كلماته على التراب قبل أن تتلقفها آذاننا، فلا نخضع لتوجيه أحد، ونُصِرُّ على أن نكون القادة، وأهل الرأي، نسخر من أنفسنا أحيانًا، ونضحك كل الأحايين، وخاصة على ردود أفعال الآباء تِجاه حماقاتنا، وكنت أترقَّب رَدَّ فِعل كل أبٍ، ولا أترقَّب ردَّ فِعل أبي، لم يكن أحدٌ يستطيع أن يتوقعه، فلم أكن أستطيع إظهار هذه الحماقات التي يعتبرها الجميع – حتى أمي – من طبيعة العمر والمرحلة، وأنها دليل النمو الطبيعي…، إلا أبي لا يجب أن يرى إلا ما يحب، ولا يسمع عنا إلا ما يجعله فخورًا مَزهوًّا أمام رِفاقه الذين يجتمعون ويمارسون الصداقة على طريقتهم….
حيث كانوا كل أسبوع يقضون ليلة في بيت أحدهم، ولكثرة عددهم الذي يصل إلى عشرة أشخاص أحيانًا، كان يأتي دورنا كل شهرين تقريبًا، وكنا نستعد له قبلها بأسبوعين أو أكثر؛ حيث تبدأ أمي في تحديد نوعية العشاء، وما تحتاجه من ميزانية ومأكولات، وكان أبي أكرمهم في تصوُّري، عرَفت ذلك من كثرة الثناء الذي يَحظى به منهم، واعتذارهم عن تقصيرهم، في تصوري أنهم ككل أرباب العوائل، يُقدمون بيتهم وأولادهم على كل شيء، إلا أبي فنفسُه وسيرتُه بين الناس أولًا، ثم الآخرون، وقد يكون مَرَدُّ ذلك أنه كان وحيد أبويه، ربما، فلم يعرف إلا أن يكون محور اهتمام كل مَن حوله، كما كان دائمًا محور حياة والديه..، كانوا يتبادلون السمر في مجالات شتَّى: (سياسة وأدب، ونساء، ومخدرات أحيانًا)، وكان منهم الحكيم، المثقف، المستمع، الخطيب، الرويبضة، المتدين….
دامت صداقتهم سنوات، فقد كان اجتماعهم أشبه بجلسة على مقهى أدبي أو سياسي، تختلط فيه الآراء والأحلام والذكريات، وأنفاس التبغ والسيجار والقهوة…، ودامت حياتنا على هذه الحال، حتى عَلِمت أمي أن ابنة أحد هؤلاء الأصدقاء طُلِّقت، فحزِنت كثيرًا وتعاطفت معها، وظلت تتَّخذ من تجربتها مِدادًا لنُصح أمل أختي وتوعيتها؛ حيث إنها كادت تنهي المرحلة الثانوية، وهذا في عُرف أبي إيذانٌ بخِطْبَتِها…، ثم لاحظت أمي أن موعد السهرة في بيتنا بدأ يتباعد ويَكثُر لدى عايش (أبو رانيا ) تلك المطلقة، فكانت تَمزَح مع أبي: ما هذا الكرم الذي نزل فجأة على عايش أبي رانيا؟! أيَستضيفكم على نفقة ابنته؟ أم يريد تزويجها لأحدكم؟
يرد أبي: لا تظلمي الرجل، تعرفين معاناته مع زوجته الكسولة، فكان يتحرج من تَكرار سهرنا عنده، أما الآن فابنتُه رانيا موجودة، ويريد أن يشغلها عن أزمة طلاقها، ويشغلها عن أحزانها، فقد كادت تموت كما تعلمين…
فترد أمي: أَنْبِهْ محسنًا وغانمًا بصفتهما عَزَبين في مجموعتكم، وحتمًا سيُخطط لتزويجها من أحدهم، فيرفض أبي تصديق هذا، ويرفض التعليق كذلك، ويكتفي بنظرات مُعاتِبة، وكنت أُتابع حديثهما أحيانًا وأنا أذاكر، أو أكون نائمًا في غرفة أمي لتَأْنَس بي؛ حيث يعود أبي في تلك الليلة بعد صلاة الفجر بالمسجد مع رفاقه، ثم ينصرف كل واحد منهم إلى بيته…
أنهيت الشهادة الإعدادية بمجموع كبير يسمح لي بالالتحاق بالمدرسة الثانوية ثم الجامعة، وكانت فرحة كبيرة لأبي، وكم أظهر لي تودُّدًا وسعادة في هذا اليوم، فاقت سعادته بنجاح أمل في الثانوية قبل ذلك، حتى تمنَّيت لو أني الأول على المنطقة كلها، لأحصل منه على مزيد من الحب والاهتمام، وقد قرر إكرامي بأن يُقيم عشاءً كبيرًا في بيتنا، واشترى لي هَدية طالَما حَلَمْتُ بها، وهي بندقية صيد كنت أَحببتها من خلال الأفلام الأجنبية التي يحبها أخي محمد، ويضطرني لمشاهدتها معه؛ حيث كنت أكرهها في البداية، ثم أحببتها لجمال المناظر الطبيعة والمغامرة فيها، ولأن الكبار فقط هم الذين يشاهدونها…!
وأَهدى لأمي هدية وقدَّمها لها أمامنا جميعًا، مع كلمات شكر لم تَعهَدْها ولم يَعهَدْها أحدٌ قائلًا: أحسنتِ التربية يا صفية، دخل محمد الحقوق، وأمل كلية الآداب، وها هو باسل ثلاث سنوات فقط، ويَلحَق بهم، لكني أريده طبيبًا أو مهندسًا، ثم يقول لي: لا مجال لأن تدخل القسم الأدبي كإخوتك، فلتجتهد من الآن، أنت فرصتي الأخيرة لتحقيق هذا الحلم، والتفت لأمي قائلًا لها مازحًا: وإلاَّ فَلْتُنْجِبي لي طفلًا آخَرَ يُحقق لي هذا الحلم…!
تَضحَك أمي، ونضحك جميعًا كأننا نشاهد فيلمًا سنيمائيًّا، يريد كل منا أن يَصفَعَه مَنْ بجانبه؛ ليستيقن هل هو في حُلمٍ أو حقيقة؟ هل هذا أبي أو رجل يُشبهه دخل علينا خطأً…، بدأت أُراقب أمي وهي تتحسَّس هَديتها؛ إذ كانت عباءة من المخمل الفخم، وخاتَمًا من الذهب الملوَّن، وعطرًا تحبه، تتلمسها وتَحتضنها وتقول: كم أُحبك يا مرزوق! كم أُحبك! ليتك هادئ هكذا دومًا، ليتك تقترب منا، وتقلل من دائرتك الاجتماعية الزائدة هذه التي تشاركنا فيك، ثم ترفع يدها إلى السماء وتدعو لي: (يا رب، يسعدك يا باسل كما أسعدتنا، وتُحقق لأبيك حُلمه يا رب …)، وأصبح هذا حُلمها… أُحقق حلم أبي بالطب أو الهندسة…، ثم جاء الأهل والجيران للعشاء على شرف نجاحي، وامتلأ البيت سعادةً وفرحةً، خالتي تساعد أمي في المطبخ، جارتنا تُعد المشروبات، أمل تُنسق الفواكه، محمد يَجمع المقاعد، ويُعد الجلسات الأرضية، وكلما ناداه أحد نظر إليّ مرددًا بغيظٍ:
مبارك يا دكتور، تذكَّر أني نجحت في الثانوية وليست الإعدادية، ولم يقل لي أبي حتى كلمة (مبارك)؛ لأني دخلت القسم الأدبي، أما حضرتك فالمطيع المجتهد، كلنا في الخدمة يا دكتور، ثم يهمس في أُذني: (سأَذبحك بعد انتهاء هذه السهرة)، فأضحك وأرفع صوت الكاسيت على أغنية عبد الحليم: الناجح يرفع إيده…!
فيبتسم مرات ويلكمني أخرى… ويقول: ـ سنرى مَن سيصبح دكتورًا فينا، فأرد عليه بهدوء: طبعًا أنت! ، فالحقوق أصبحت تُخرِّج أطباءَ على عهدك لا محامين.
يرد علي: سآخذ دكتوراه يا جاهل في القانون، أضحك وأعتبره مجنونًا؛ لأني لم أكن أَفهَم ما معنى أن يسمى دكتورًا وهو لم يتخرَّج في الطب!
نُفيق من هذا الحوار على صوت زغاريد تُطلقها إحدى الضيوف عند دخولها وهي قادمة محملة بالسكر والعصائر والمعجنات…! وكأنها بالزغرودة تقول: احملوا عني ما أتيتُ لكم به…
انتهت الحفلة على أفضل وجه ممكن، وكانت أمي متألقة كأنها عروس، وتذيع بين الحاضرات قصة العباءة المخملية، وخاتم الذهب الملون، والعطر، وكيف أنني سأصبح دكتورًا أو مهندسًا! وتَرمُق أبي شوقًا في غَدوته ورَوْحته، وكأنهما متحابان لم يَجمعهما بيتٌ حتى الآن…
كان الجميع في حالة من إشراقة الروح، ورغبة في استطعام السعادة في غفلة من الزمن، إلا سيدة واحدة كانت تجلس مهمومة، تواري وجهها من أمي؛ كي لا تَلمَح دمعها…
فسَّرتُ ذلك أن ابنها لم يحصل على مجموع جيد مثلي، وأنه سيدخل دراسة فنية غالبًا، لا تؤدي به للجامعة ـ إن لم يجتهد ـ فأُشفِق عليها مرة، وأغتاظ منها أخرى!، وفي الصباح قصصتُ لأمي قصة جارتنا التي لم تكن سعيدة بنجاحي، وأنه يجب على أمي ألا تجعلها من المقربات إليها، فكيف أن أمي تحبها كثيرًا وهي تغار مني بهذه الطريقة؟!
قالت: لا يا حبيبي، إن خالتك أم يزيد من أخلص الناس وأحبهم لي، وتعتبر أولادي أولادها، أكيد هناك شيء آخر يُحزنها، حسنًا أنك أخبرتني؛ لأذهب إليها، وأطمئن عليها…!
مضى النهار وخالتي وابنتها عندنا تساعدان أمي في إعادة البيت إلى روائه، ثم انصرفتا ومعهما أمي؛ لتطمئن على جارتنا أم يزيد، وأنا وأمل نجلس في الشرفة نتبادل أخبار الأمس، وموقف أبي الذي لا أحد يستطيع تصديقه من البيت كله، ما عدا خالتي فكانت مبهورة به، وكثيرًا ما أسمعُها تُوبِّخ أمي كلما خلت بها، وتقول لها: أنت دومًا ظالمة لمرزوق، فهو رجل كريم، اجتماعي، يحب أولاده، وأنت تَتشكين من قسوته، أنت تجحدين النعم، صَنعتِ منه فرعونًا في عين أبنائه، لتُحْكمي قَبضتك عليهم، ستندمين يومًا على ما فعلتِ، سيطرت عليهم بِعَصا أَسميتِها الأب، فأصبحوا يخافونه أكثر مما يَهابونه، ويُطيعونه ولا يحبونه، تعالي وعيشي مع زوجي يومين فقط، ستكرهين الدنيا…!
تضحك أمي وتقول لها: ربما…!
ولكني أرى زوجك من أفضل الناس عقلًا واعتدالًا، غير أنه بخيل نوعًا ما، لكنه لا يَعيبه شيء آخر.
تغضب خالتي وتقول: الرجل البخيل رجلٌ ميت في عين المرأة، فهو عند النساء يساوي المرأة الدميمة في عين الرجال…!
تنظر لها أمي بعطف وتقول: العوض من ربِّ العالمين، غدًا أولادك يُعوِّضون لك ما تَأمُلينه…
أما محمد فكان نائمًا؛ لأنه لم يَنَمْ أمس حتى الصباح، وحرَصتُ أن أنام قبل أن يَستيقظ هو، ويستمر في توبيخي على فعل أبي؛ حيث ضغط عليه في تنظيم المكان والإشراف على كل ما يلزم حفل العشاء على أكمل وجه…