قصائد دون سن الرشد في ظلال النقد
بقلم أ. روان أحمد شقورة
في هذه اللحظة من موطني غابت الشمس، فأشرع القمر نوره، فتساءلت: أين رحلت الشمس؟ ومتى ستعود؟ وكيف ستشرق مرة أخرى؟
وفي خضم هذه الأسئلة سطع في خاطري مفهوم النقد في رأي الشخصي، فالإبداع شمس والأدب إبداع شاعر أو كاتب أشرق بشمسه، والنقد هو التساؤل وإثارة العقل عن الإبداع أمام السامع أو القارئ، فوقفت أتأمل الديوان الشعري للشاعر حسين بن حمزة (قصائد دون سن الرشد) الذي أتى بعد مسافة زمان طال انتظاره.
عتبة العنوان: يعتبر العنوان فاتحة الديوان، والشكل الذي ينم عن الموضوع، فقد يظهر المضمون من هذه العتبة بشكل جلي، وهنا جاء السياق الأسلوبي مفعم الدلالة وغني بالمعنى، فابتدأ بجملة اسمية؛ لدلالة على الثبوت والرسوخ في جوهر ما سيقدمه من معاني، فالمبتدأ محذوف جوازاً تقديره (هي)، وهذا الحذف نابع من بلاغة الروح التي انتقت هذا السياق؛ وحُذف للإيجاز والاختصار، فأراد أن يُخبر بما جاء من جعبته من قصائد، وجاء الخبر (قصائد) على وزن فعائل التي مفردها قصيدة فقلبت الياء إلى همزة بالإعلال، فجاءت جمعاً؛ لدلالة على الكثرة، فهي قصائد ديوان شمل ما اختلج به فؤاده وبما أنار به فكره وبما خاضته روحه من تجربة.
فالقصائد أصلها اللغوي قصد أي اتبع نهج وطريقة خاصة في مسيرة الحياة، والمعني الاصطلاحي مجموعة من الأبيات الشعرية المتحدة في الوزن والقافية والروي، تتكون من سبعة أبيات فأكثر، لكنّه في هذا الديوان خلا من التعريف الاصطلاحي وتمرّد على شكليات الوزن والتقاليد المتبعة، وهنا سيعترض فئة من النقاد على هذا النوع من الشعر، وسيصنفوه في باب النثر، ولكنّ الشاعر ببديهيته الفطرية افتتح العنوان بكلمة قصائد، وحذف المبتدأ؛ ليؤكد على أن هذا النوع من الأدب هو شعر لا نثر، وكأنّه يثبت شرعية هذا النوع من الشعر.
ثُم اتشح العنوان بمصطلح قانوني ديني علمي على أشرعت الحياة في التركيب الإضافي (دون سن الرشد) فدون كلمة أصلها أندلسي وقيل لاتيني وهي ظرف مكان منصوب بمعنى تحت ضد فوق تقصير عن الغاية وهي مضاف ، سن (عمر الإنسان) مضاف إليه مجرور وهو مضاف، الرشد (البلوغ العقلي والجسدي والروحي) مضاف إليه مجرور، فتكرر المضافات لتأكيد على المدة الزمنية التي يقصدها، وبرع في هذا الانتقاء للمدة، فاختار مرحلة زمنية تبدأ بها مدارك الإنسان تتساءل عن الوجود وأسراره، مرحلة يتمرد بها الإنسان عن محيطه وأعرافه، مرحلة يقول بها الإنسان من أنا؟ من نحن؟
وجهر بذلك التمرد بحروف الجهر (الصاد، الدال، النون، السين، الراء، الشين)؛ ليجهر بذلك التمرد دون وجل أو خوف أو همس…
فجاء التمرد منذ فاتحة الديوان منسوج بسياق عمودي مناسب بين الجملة الاسمية والجملة التركيبية الإضافية، فالجملة الاسمية المقصود منها قصيدة النثر وهو نوع أدبي جديد متمرد على الشكل بالوزن والقافية والروي يناسب التمرد في الجملة التركيبية الإضافية للمرحلة الزمنية المتمردة على الوجود بأسره.
ومن وجهة نظري الخاصة ما زلتُ أكرر أن هذا النوع من الأدب (القصائد نثرية) هو إبداع وولادة ناتجة عن عملية إخصاب بين الشعر والنثر، فأمام هذه القصائد نثرتُ قلمي وامتزجتُ بمعانيها وخرجتُ بخلاصة ورؤية جديدة في الحياة…
وعندما قرأت الفهرس بعناوينه (مفتتح، نقود الوحدة، أُربي اسمك في فمي، شيخوخة، غرف) خُلقت لي حياة إنسان بتجربتها الكاملة، فابتدأ بالمفتتح أي بداية حياة وفاتحتها ، فابتدأها قائلاً:
أنا وحشة الكلمات الزائدة
التي يحذفها الشعراء
لكي تصبح قصائدهم أجمل
فانتقى الكلمات الزائدة؛ لِيُعرف عن نفسه، فهو ليس إلا زائد وعابر سبيل في هذه الحياة، ولكنّه عابر يُضفى الجمال على الآخرين بقصائدهم، فجاء التمرد بالمفتتح حينما اختار الزائد دون السائد، ثم الوحدة التي مر بها كل إنسان وهو في باطن الرحم ففهرس العنوان (نقود الوحدة) فأتى التمرد على الوحدة حينما قال نقود الوحدة، فأثارني تمرده وتساءلت: هل الوحدة تُقاد؟، وجاء الفعل (نقود) مضارع متعدي؛ للاستمرار والحيوية للحدث، وجاء الفاعل ضمير مستتر تقديره (نحن)، وكأنه يحتم ويفصل في الحدث بكونه جمعي للإنسانية كافة، وجاء المفعول به (الوحدة)، وأتى المعنى الفلسفي للوحدة في قصيدته قائلاً:
سيأتي يوم
أقتل فيه هذه الوحدة
وأعيش
وحيداً.
فقد يقصد خرج الإنسان من وحدة الرحم ليقتلها، ثم يعيش وحيداً يُصارع آلالام و أحداث الحياة، أو أنه يقتل الوحدة الحياتية ويعيش بين الناس فيبقى وحيداً لا يشعر بمشاعره أحد، أو يقتل الوحدة التي تربطه بين الناس وفرحه ويعيش وحيداً.
ثم التربية التي تختلف من إنسان لآخر بحسب المكان والزمان، وجاء التمرد بارز بالعنوان حين غزل وغرد بأبجدية الحب (أُربي اسمك في فمي) فجاءت البلاغة مفعمة حين استخدم المجاز المرسل في(أُربي اسمك) فذكر اسمها وأراد كيان المحبوبة؛ لتغني باسم من أحب، وجاء بحرف الجر في؛ لظرفية، ثم أتبع باسم مجرور (فمي)، فجاء التمرد حين قال أُربي، فهل اسم المحبوبة يُربى أم يُحكى؟، سيتبادر إلى الذهن يُحكى لكن استخدم أُربي؛ لدلالة على العناية والتغذية والاهتمام والحرص والحب والحنان لتلك المحبوبة، وجاء الفاعل ضمير مستتر تقديره(أنا)؛ لتخصيص الأنثى التي أحبها، فانتقل بعد فاعل نقود الجمعي إلى الفاعل الأنا، ثم جاء المفعول به (اسمك) متصل بكاف الخطاب تقديره أنتِ، فما زال يُوارى من أحب بضمائر مستترة ومخاطبة دون التصريح، فاستخدم الإيحاء دون ذكر اسم من أحب علناً، قد يكون خشية على من أحب، أو لتصبح القصيدة إنسانية تعم كل عاشق غُرم وهام بأنثى يُربي اسمها وكيانها في فمه، وذكر الفم وأراد القلب، فالفم الأداة التي ينطق بها الإنسان ويفصح عن ما ولج في فؤاده، وهذا بلاغة المجاز المرسل، واقرأ قصيدته حينما خاطبها وربها في فمه:
تركضين تحت المطر
بتلك الطريقة التي تجعل المارة
وسائقي السيارات
يصدق أن أنه من أجلك
يهطل
فجاءت أحاسيسه متمردة على الطبيعة حينما نبض قلبه، حيث جعل سقوط الأمطار وغزارتها من أجلها تتساقط، فكأن أحاسيسه مزجت بالطبيعة، وطالما امتزج العاشق المثالي الخيالي بالطبيعة، فهي الحانية التي تحتضن مشاعر الإنسان بصدق، وهنا يبرز المذهب الرومانسي حين امتزج بالطبيعة الحانية بصدق الشعور، وما زال الإيحاء دون التصريح باسم من أحب، ثم الشيخوخة التي تُصيب كل من عانى من الزمان وإن اختلفت الأعمار، فجاء بنهاية المطاف لدى مرحلة الإنسان وجاء باسم (شيخوخة)؛ الإثبات والحقيقة التي ستصيب كل حي على التراب، فذكر في القصيدة سماتهم فاقرأ هذا الجزء:
الذين يحبون النساء
بمجرد التعرف على أسمائهن الأولى
حيث ذكر جانب من جوانب الشخصية المدفونة في اللاوعي المرحلة، حيث الجسد يشيخ وتذبل أحاسيسه لكنّ روحه ما زالت تنبض بالحياة حين تذكر أسماء الزهور وأسماء النساء، حينها يدق باب… وجاء باسم الموصول (الذين)؛ لدلالة على الجمع هذا الشعور لكل من تخطى هذه المرحلة وصلتها الجملة(يحبون النساء بمجرد التعرف على أسمائهن الأولى) فجاء اسم المجرور (أسمائهن) جمعاً؛ لدلالة على العشق لكل النساء في تلك المرحلة، التي قد يعتبرها التحليل النفسي والاجتماعي مرحلة مراهقة متأخرة، لكنّها مرحلة صراع بين جسد ذبل وروح ما زالت تفوح عطراً ترفض الاستسلام لعجز الجسد وبياض الشعر…
ثم انتهى بغرفة طويت بها صفحة وعمر عما عاشه كل إنسان، فاقرأ حين قال:
مكتفياً
بالحياة القليلة التي استأجرتها في تلك الغرف
بما كان يتسرب إليها من درقة نافذة وحيدة
بتلك الجلبة الخفيفة التي تشبه خفقة جناح لطائر في قفص
وجاءت في الأسطر خاصية من خصائص قصيدة النثر ألا وهو تحررها من موسيقا الخارجية المتمثلة بالوزن والقافية معتمدة على الموسيقا الداخلية بتكرار حرف الراء وهو حرف تكرير في الكلمات (استأجرتها، يتسرب، درقة، طائر)؛ لإعطاء جرس موسيقي، ولدلالة على تكرار الفكرة لمراحل الحياة لكل حي، فما أشبه تلك الغرفة بذلك المفتتح الزائد، وتلك الوحدة، وتلك الحبيبة الواحدة، وتلك الشيخوخة، فهي غرفة واحدة لمفتح واحد، وغرفة واحدة كوحدة متفردة، وكحبيبة واحدة وأبدية، وكنهاية شيخوخة حتمية…
أجل هي غرفة لكل إنسان، ومراحل حياة جديرة بأن تسطر في ديوان، وتنقد بقلم ناقد ناثر ذلك.