يا روح
د. أسماء السيد سامح | مصر
جفّ ماءُ قلبي، وانحسر عن أسماك ميتة، وأصداف، ولآلئ غير مكتملة، ودموع في طور التكوّن، ووعود مصلوبة، وأجنّة أحلام مشوهة، ونساء يغطين وجوههن خشية الضوء، ورجال يعكفون بمنتهى الإخلاص على تضييع أعمارهم في ما لا يفيد، وأبيات شعر وفواتير وطوابير وأقلام نشف حبرها وأطباق متسخة وكوتشينة ومفاتيح وكتب وقصاصات ورق وأعواد بخور ومسبحة وبضع آيات من الذكر الحكيم وقنينة عطر مكسورة وكأس فارغة، ومقهى صاخب، ليتني جلستُ على مقاعده مرّة، وطلبتُ شايا بالنعناع ونارجيلة، ونعمت بدفء الثرثرة، عندما كان ذلك ممكنًا!
لمسني العالم، ولمسته، فلم يجد أحدنا ودًا في قلبه للآخر، ولا محبّة ولا أُنسًا، ولا ضرورة لمزيد من السير معًا في طريق واحد، فافترقنا، وسار كلٌّ منا في اتجاه مخالف، مجاهدً ألا نلتقي مجددًا، أو يكون بيننا ما يستدعي تبادل الحديث، ولو بشكل عابر، وعندما يحدث ذلك مصادفة، يدير كلّ منّا وجهه عن الآخر، ويتشاغل بسواه: يغنّي بصوت مرتفع، يتحدث إلى الفراغ، يحدق في اللاشيء، يقفز على قدم واحدة كاللقلق، حتى تموت اللحظة، ونستقيم على طُرقنا المتنافرة بشجاعة مرة أخرى.
في لحظة، تكفّ الذكريات عن كونها معنى، وتتشيّأ كائنًا حيًا أزرق العينين، ذا ناب مسموم، يغرسه في وريدك كلمّا تكشّف، وفي عنقك كلّما لاح، فتضطرَ للسير متدثرًا بملابس ثقيلة وعالية، صيفًا وشتاء، لا تظهر منها سوى عينيك، أملًا في المرور جواره مرّة دون أن ينتهكك، لكن هذا لا يمنعه على أي حال من أن يعصر حبة قلبك في أي لحظة شاء.
الذين اقتربوا، احترقوا، والذين بقوا على الشاطئ الآمن، جرفهم السيل إذ تفجّر على حين غرة، فالتقى الجميع في الخسران، وشربوا معًا –أبرياؤهم ومذنبوهم- نخب الوقوع في الفخ واللا عودة من أي طريق، اختاروه أو فُرض عليهم.
بعدَكِ.. تعبرني الأشياء وأعبرها، دون أن يتوقّف أحدُنا أمام صاحبه، أو يُلقي إليه بالا. لا شغف، لا استعداد لتحريك أصبع، لا طاقة.
أهزّ شجرة الحب بقوة، فتسَّاقط ثمرًا فاسدًا. أقصد نهر المودة، لا ماء والأسماك -التي لم تفرّ- راقدة على ظهورها. أحلب ثدي الذكريات، فينزّ صديدًا..
أراهن على أذيال النسيان التي سيجرّها الوقت يومًا فوق ذاكرتي، فيتساوى القاتل والمقتول، والذابح والمذبوح، ويرقد الجميع -في آخر الفيلم- جوار بعضهم بمودّة حمقاء، في قبر أبيض، لا يعرف أحدٌ له شاهدًا.
لا عصافير فوق أشجار هذه المدينة، لا أسماك زينة في أحواض البائعين، لا زهور في الفاترينات، لا ضحكة طفل ترف أو غنوة ساذجة تصدح!
كيف تحوّل العالم إلى مكان قبيح، منذ غادرتِ؟
أين معجزة الحياة، وغريزة البقاء لتقول كلمتها، وتُنهي هذا العبث؟!
لماذا تتعطّل القوانين ها هنا، ولا يكون لها جلال، من رشوتِ هذه المرّة؟!
هل أنتِ الحياة، وما سواكِ تجلياتٌ فقيرةٌ لصور بدائية من الكون، انتهتْ صلاحيتها قبل الانفجار العظيم، والآن تحيا على أنقاض قلبي، وتعود بي ملايين السنوات للوراء، حيث ستلقيني في الجليد والوحدة والمرض؟!
هل أنتِ جنّة ما بعد الحساب، وأنا مذنبٌ عاصٍ، خفّت موازينه في اللحظة الفاصلة، فاستحق اللعن والطرد من الرحمة، والحلول أبدًا في قُمقم الفقد، في انتظار من يدعك المصباح، فيطلقه على هيئة عبد، ينتظر الأمنيات الثلاثة؟!
لكن كيف سيُحقق لغيره، وهو العاجز عن التحقيق لنفسه؟!
أتمنّى أن يرسل الله الجراد والضفادع والقمّل والدمّ على الخذلان، فيلتهمونه حيًا، ولا تعود له قيامة، ويكفّ عن اعتبار نفسه يدي ورجلي ومفتاح سيارتي وملعقتي وطبقي وقميصي وكبريائي وفِراشي، فيما أسلّي وقت فراغي باللعب في ثلج الوحدة من جديد، وتكوين كُراتٍ بيضاء، أقذفها على مدّ يدي، بأقصى ما أملك من قوة، لتتفتت الواحدة تلو الأخرى، دون أن تترك أثرًا.
لا أريد، صدقًا، لا أريد مزيدًا من الوقت لفعل أي شيء، الانتظار خرافة تتكسّر كعود جاف في يد لاعب كمال أجسام، والأمل لمبة نيون وَصَلَها تيارٌ أكبر من قدرتها على التحمل فاحترقت، وتكسّر زجاجها.
كمَن قلبه المثخن بالجراح، يُقيم في بحر من الكحول.. أمضي حاملًا تاريخًا لا أحبّه ولا يحبّني، أنوء به، وينوء بي، وكلانا يُخفي للآخر سكينًا حامية وراء ظهره، يتحيّن لحظة غفلة، لحظة انفلات زمام، تمكّنه من وضع حل نهائي لكل هذا العبث!