التقديم الواجب يفيد الاختصاص كالتقديم الجائز.

الأستاذ الشيخ طاهر العلواني| مصر 

اعلم – عصمك الله من الزلل، وجنّبك الشبهة – أن علمَ البيانِ سبيلُه الرويَّةُ والفكر، ودقائقُه مُستقاها العقل، ولطائفُه إن لم تستهلكِ الفكرةَ استبدَّ الخفاءُ بجملتِها، واستمرَّ السِّرارُ بأهلَّتِها، وهذا من ضعفِ المُنَّةِ في الكشفِ عن الحقائق، وقصرِ الهمَّة في البحث عن الدقائق، والاكتفاءِ بجملةِ الظواهر، وهذا من التيسير الذي يجلب المشقّة، ودفعِ الكلفةِ بما يفضي إلى أشدِّ الكلفة، وكم من أمور اتفقتْ في الجملةِ وافترقتْ عند التفصيل! فإن اكتفيتَ بظواهر الأمور وجُمَلِها، فمن أين لك أن تعلم عند افتراقها أيُّها أذهبُ عِرْقًا في الفضيلة، وأرسخُ قدمًا في الفصاحة، وأقعدُ في الاستبداد بالمزيِّة؟

واعلم أن الذي يوجِبه ظاهر الأمر ويسبق إلى الفكر مِن أن التقديم النحوي لا شرف فيه ولا فضل؛ من حيث إنه واجب ليس من شأنك أن تُحصِّلَ فيه تغييرًا غيرَ ما وقع في كلامهم، وهمٌ مستقرٌّ في الأذهان، ومُغرًى به من خيلولةِ أنَّ العربَ تُلزم شيئا تصديرا اعتباطا؛ ليس لها فيه حكمة، ولا لمرامها منه شيء سوى تضييق شعوب الكلام على المتكلم، وهذا لعمري قول من لم يقف لكلامهم على جملة ولا تفصيل فضلا عن حكمة استأثر بها ذاك اللسان واستبدّ، وليس وراء ذلك في الفساد غاية.

وإذا بانت لك جملةُ ما أردتُ، وكنتَ ممن يستعين بمليح الفكرة على دقائق الأمور، وبهمَّةٍ وقَّادة وقريحةٍ منقادة على جلائلها، فاعلم أن الاختصاص والعناية بالمتقدم عبارة عن أن يكون ذاك المتقدِّمُ ما تشرئبُّ له الأعناق، وتكون الفائدة الأهمُّ فيه؛ ألا ترى قوله تعالى “يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم”، أفاد أن الإجابة قد حصلت، فليست بمسئول عنها: أكانت أم لم تكن؟ وإنما المسئول عنه: أيَّ إجابة أُجبتم؟ فالفائدة الأهم في نوعها المبهمِ الذي كان اسم الاستفهام عبارةً عنه، وليس الاختصاص إلا هذا. وتأمل يوما أن تكون بين إخوانك، وفيهم غائب، فتقول: من الغائب؟ فكان تقديمكُ اسمَ الاستفهام من حيث كان المبهمَ المرادَ تحصيلُه، ثم اعكس الأمر، بأن تعرف الغائب ولا تعرف حاله، فتقول: كيف زيد؟ تجدْك معنيًّا بأمر الحال، فمن أجل ذلك قدمت المستفهم به عنها، وليس الاختصاص إلا هذا. فاعرف ذلك إن شاء الله.

وإذا عرفت معنى الاختصاص، وانكشف لك غطاؤه، فهذا الذي ذكرتُه لك في الاستفهام أصلٌ أصيلٌ في التقديم النحوي، إذا اعتبرتَه وعرضتَ عليه غيره من أنواعه، انقاد إليك القياس انقيادا لا تعسّف فيه، ولعلك تصادف فيه ما لا يطاوعك في غيره من التقديمِ تلك المطاوعة، ولا يجري في عنان مرادك ذلك الجري؛ ألا ترى باب (إن وأخواتها) إنما وجب تقديمها من حيث كان الغرض الأول من التركيب معانيها؟ وعلى هذا قياس الشرط ونحوه مما أوجبت العرب تقديمه، ولعلي أستأنف في بيانها كلها تقريرا نزداد به بصيرة ونتأمل هذا المُستخرَج، ولا نَعِدُ أنفسَنا الرِّيَّ من السراب اللامع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى