هل بإمكاننا تحقيق التوافق العربي في ظل اللحظة العربية الر اهنة؟
محمد المحسن | تونس
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ القومية العربية هي إحدى الأسس الفكرية، التي عكست في مضمونها تحولات التاريخ العربي، على الأقل في القرن العشرين.
فلقد تجانست وتماهت مع كثير من بناه وأفكاره، فأثرت فيها وتأثرت بها. كما أنّها اشتبكت أثناء تطورها، مع الموجة الإستعمارية الأوروبية، التي مثلت الحقبة الكولونيالية بكل تداعياتها السياسية والإقتصادية داخل نمط الإنتاج الرأسمالي.
وامتدّ الإشتباك إلى-الستينات-من القرن العشرين المنصرم وقد شمل في جوهره معظم أجزاء الخريطة العربية، معتمدا مرجعية نضالية قوامها التحرّر القومي، ومواجهة الإستعمار الذي تأسّس داخل منظومة العنف والتطرّف، حيث كان عالمنا العربي في الصميم منها.
ومن هنا كانت القومية العربية منخرطة في النضال ضد أخطر نزعات النهج الإستعماري في العصر الحديث، علاوة على ارتباطها بالفلسفة الإشتراكية من خلال العديد من النقاط،سواء على مستوى الممارسة، أو عند الصياغة الإيديولوجية التي تجلّت في النهج الناصري، والخطاب البعثي، كما اختلفت ضمنيا مع المفهوم الماركسي للإشتراكية ببعده الأممي المتجاوز للقومية، إلا أنّ ذلك الإرتباط يفسّر الرغبة الملحة لحركات التحرّر القومي في الإنفلات من قيود إيديولوجية المستعمر، ويدلّ كذلك على الحساسية المفرطة للقومية العربية إزاء الإستعمار بكل ألوانه وأشكاله..
إنّنا اليوم نصافح ألفية ثالثة ونلج رحاب قرن جديد، ورغم رياح العولمة التي هبّت من-أقاصي الشمال-بهدف تنميط ما يعترض سبيلها،“فإنّ القومية العربية تظلّ تعبيرا عن وعي ملهم،وتشكيلا ثقافيا/تاريخيا عميقا يجعل منها وتصير معه،إنتماء ووجودا.”(1)
وهذا يعني أنّها ليست مجرّد توجّه يزول بزوال الظروف التي رسمته،كما أنّ التجسيد السياسي لأدبياتها يظلّ قابلا للإجتهاد بهدف التجديد لا النفي،إضافة إلى هذا “لم تكن في يوم من الأيّام قومية توسعية أو استعمارية أو عنصرية كما حدث للقوميات الأوروبية،بل لعلّ العكس هو الصحيح،فهي قومية ناضلت الإستعمار،وهي لا تشعر بأيّة”خطيئة”في حق قوميات أخرى، وبالتالي لا ينبغي أن ترث عقابا-كما هو الوضع في ألمانيا -عن جريمة لم ترتكبها كهتلر، ولا هي خاضت حربا كما هو الوضع في كوريا.”(2)
إلا أنّ التمزّق القومي والظلم الإجتماعي والقهر بمختلف أشكاله، خلق أوضاعا تشبه الأمر الواقع، هي الثغرة الواسعة التي نفذ وينفذ منها الأجنبي لخلخلة أوضاعنا واجتثاث الحس القومي من الوجدان العربي.
كما أنّ مغيب شمس الحضارة الإسلامية منذ ضياع الأندلس إلى فقدان فلسطين،لم يبدأ إلا حين غابت الأقانيم الثلاثة عن جوهر النهضة: تفتّتت الدولة الواحدة، وساد الظلم الإجتماعي، وطغت الدكتاتورية العمياء، وكان الفكر العنصري هو الكساء الحريري اللامع الذي يكسو منذ ألف سنة ولا يزال هذا التخلّف المروّع لدرجة تهديد أمة كاملة بالإنقراض، وقد اتخذ في مساره طريقين لا ثالث لهما:
-الأوّل: هو الإستلاب المطلق، بالإغتراب الكامل عن أسس الحضارة القومية، بالخلط الشائن بين جوهر الحضارة الحديثة من ناحية والغرب من ناحية أخرى، بحيث أصبحت الحداثة والتقدّم والتطوّر كلها معاني ترادف الغرب، وكان ذلك إستعمارا حضاريا للعقل العربي ولا يزال.
-الثاني: هو رد الفعل المطلق،بالإنكفاء الكامل على الذات (العشائرية أو القبلية أو الطائفية، لا الوطنية ولا القومية) بالخلط الشائن أيضا بين الحضارة الحديثة والغرب، بحيث أصبح كل ما هو غربي من عمل الشيطان.
فلا عجب إذن أن تحصل مفارقات نادرة في التاريخ قد نصاب تبعا لها بالذهول،إذ كيف يمكن أن تفسّر وجود أمّة واحدة ليست مجسّدة في دولة واحدة والأمثلة هنا كثيرة:
– هناك ألمانيا المقسّمة (سابقا) كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية،وهو الإنقسام الذي يكاد أن يكون بمعنى ما عقابا على نازية ألمانيا الهتلرية وجموحها في شهوة السيطرة على العالم.
–وهناك كوريا المقسّمة كإحدى نتائج الحرب الكورية،ورغبة أمريكا في السيطرة على أي جزء من الأراضي الكورية،مهما تناقض ذلك مع إرادة الشعب الكوري الممزّق بين جنوب مستقر ومتقدّم، وشمال مشتعل دوما بالإضطرابات.
– وكانت هناك-فيتنام-التي ما إن دحرت الإستعمار حتى بادرت إلى الأمر الطبيعي، وهو توحيد الشمال والجنوب.
وهناك مفارقات أخرى تبلورت في سياق التاريخ، وتجسّدت في وجود عدة أمم في دولة مركزية واحدة، كما هو الحال في الإتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا (سابقا) وسويسرا، حيث تعدّدت القوميات والجمهوريات واللغات، ومع ذلك نجحت التجارب الثلاث في إقامة الدولة الواحدة.
فما الذي أصاب قوميتنا العربية..؟!
كل ما نعرفه،”أنّ هناك أمّة واحدة تضمّنا منذ حوالي خمسة عشر قرنا،وأنّ عوامل داخلية وغزوات خارجية جزّأت الدولة الواحدة التي كانت تضمّ هذه الأمّة،”وأنّ الإستعمار الغربي قد إطمأنّ منذ أكثر من نصف قرن إلى تأسيس الكيان الصهيوني كمشروع نهائي لشق وحدة الوطن العربي وتفتيته إلى أقطار ودويلات”(3).
ومن هنا شهد الفكر القومي انحسارا أثّر سلبا على المنطقة العربية برمتها،لعل مرده انخراط–هذا الفكر–في الصراع مع واقع الدولة القطرية، تلك الدولة التي يمثّل وجودها إحباطا للتيار القومي الذي مرّ خطابه الوحدوي بمراحل ثلاث أساسية في القرن العشرين:
-الأولى: هي المرحلة“الطوباوية“التي صاغت قضية الوحدة العربية من منطلق عاطفي لم يستجب في مضمونه للأسس الموضوعية للوحدة،و لا للمراحل المطلوب قطعها،أو اعتبارها في سياق التحوّلات التاريخية، فطرحت الوحدة كبديل لكل مظاهر التجزئة والتخلّف، ونفي للإستعمار في الوطن العربي في النصف الأوّل من القرن العشرين، واكتست –تبعا لذلك–ملامح أفلاطونية سرعان ما تلاشت تحت وطأة الواقع المأزوم بكل تداعياته المؤلمة.
-الثانية: هي المرحلة الثورية التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا، وأثناء المد القومي الناصري تحديدا،وقد شهدت هزيمة 67 التي كانت من أسبابها المباشرة “فضلا عن الإنفصال بين مصر وسوريا عام 61، أنّ المسافة بين ضرورة التحرير وضرورة التنمية لم تمتلئ بالديمقراطية فكان السقوط..”(4).
والديمقراطية التي نعنيها هنا على كافة المستويات، أي ديمقراطية العلاقة بين التجربتين السياسيتين في القطرين، والديمقراطية في علاقة الشعب بالحكم سواء من زاوية المشاركة في وضع القرار أو في مراقبة تنفيذه.
-أما الثالثة،فهي المرحلة الراهنة التي يمكن وصفها بأنها أكثر إنكسارا وتصدّعا على صعيد التيّار القومي، وأكثر تأزّما على مستوى النظام الإقليمي العربي، الأمر الذي ترتّب عنه عجز مزمن عن الحوار بين قطاعات المجتمع الواحد،علاوة على الأزمات السياسية الناجمة بدورها عن سوء إدارة العلاقات العربية-العربية وعدم القدرة على تفعيل الواقع العربي مما أثبط الإرادة العربية وحال دون قدرتها على مواجهة التحديات الكبرى التي تهدّد-النظام الإقليمي-وتهدر فرص تطويره و تثويره..
إنّ المتأمّل للحياة السياسية العربية،يلاحظ دون جهد ملول،مظاهر التأزّم التي تعيشها المنطقة العربية،والتي ما فتئت تتفاقم رغم إختلاف المضامين وبقاء الديناميكية على حالها،مما يدلّ على تشرذم الصف العربي واصطدامه بحقيقة وجود نظام عربي يستند إلى ثقافة مشتركة كان من الممكن أن تحول دون “إنتاج“ نمط الأزمات بتأثير روابط القربى وديناميات عمل النظام، غير أنّ الخلافات أمست من سمات الحياة العربية وهي تنبع أساسا من طبيعة النظام الثقافي-السياسي العربي “فالمضمون قد يكون حدوديا ذا صبغة سياسية كما هو بين العراق والكويت والسعودية واليمن، والجزائر والمغرب، وقطر والسعودية،أو كما كان بين قطر والبحرين.
وقد يكون خلافا حول مستويات العمل القومي، ومستوى الإلتزامات المتبادلة بين أطراف النظام العربي كما ثار أحيانا بين ليبيا وبعض الدول العربية المجاورة”(5).
وقد يكون كذلك حول الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي وطرق مجابهة تحدياته أو وسائل التعامل معه..
هكذا وفي ظل استفحال هذه الخلافات، انخرطت المنطقة العربية في صراعات أهدرت الطاقات ومميزات التكتّل والتعاون، وعمّقت الفجوة بين الخصوصية القطرية اللاهثة وراء مصالحها العليا، وبين التكتّل القومي ببعده الإجتماعي العميق، وعمّت كنتيجة لذلك حالة من عدم التسامح مع–الآخر العربي–على حساب الرابطة القومية مما أذكى–الخصوصية القطرية–في سعيها الحثيث لإستقلالية التعبير السياسي عما تراه يناسب سيادتها الوطنية..
ومن هنا يبقى السؤال المهم في هذا السياق:
كيف يمكن تجاوز–حالة الركود السياسي–وما أفرزته من انحسار وتراجع للفكر القومي في ظل هذه التداعيات حيث يسيطر التباين والإختلاف على الخطاب العربي بمختلف أدبياته، وبمعنى آخر،كيف نتيح الوسائل الناجعة لحلحلة أوضاعنا وتطوير نظامنا العربي بما يرقى بطموحات هذه الأمة إلى المستوى المنشود..؟
في اعتقادي، أنّ التكتّل القومي، والتوافق العربي من الأهداف التاريخية الواجب تحقيقها في اللحظة العربية الر اهنة،مع إدراك أنّ التجانس العربي وحده،رغم أنّه يتيح أرضية خصبة للتفاعل مع المصالح واقعيا، غير كاف لتأسيس التوافق الكامل إلا عبر سلوك سياسي واع يعتمد الحوار والتنسيق لتطوير درجة التجانس،
ولذا فإنّ الحاجة تبدو ملحة لتحقيق نوع من المصالحة والتكامل بين كل الأقطار العربية بما يحقّق مرجعية مشتركة تتأسّس على الجدل الإيجابي بين كل الأطراف، وتؤسس لبناء إرادة قوية لدى الأمّة تؤمّن لها في المدى المنظور نهضة حضارية تعيد التأثير في التاريخ من موقع الفاعل فيه،
المتابع لمسارات تطوّره،والهادف لإعادة صياغته.فالنظام العربي،علاوة على إستناده إلى الحوار الإقليمي فإنّه يستند كذلك إلى عمق إجتماعي قوامه دعوة قومية تدعو للوحدة السياسية للإقليم العربي كانت قد جسّدت بثبات وقبل حرب الخليج الثانية، الشعور بالوحدة الثقافية،والتمسّك بالشرعية الإقليمية، بالإضافة إلى هذا وذاك هنالك “رصيد مشاعر مشترك من قضايا معينة“ على رأسها القضية الفلسطينية التي غدت انشغالا قوميا غير قابل للمزايدة من أيّ طرف عربي كان..
ومن هنا يظلّ الفكر القومي ثابتا إزاء كل التحديات، مؤكّدا في مضمونه على الوحدة تجاوزا للقطرية، وداعيا إلى التجانس الثقافي على حساب الخصوصية المجتمعية.
ويظلّ كذلك المصير القومي العربي مرتهنا بتحرير كل شبر من تراب الأرض العربية،
وتبقى الوحدة القومية للعرب تعني في جوهرها القسمة العادلة بين أقطارهم في الحقوق والواجبات، ومن ثم يصبح بديهيا أنّ هذا المفهوم القومي يعني مشاركة القوى الإجتماعية في صنع القرار: فالإشتراكية والديمقراطية تخلقان القومية العربية وتسموان بها إلى آفاق لا تُحد.. وإلاّ فالإنهيار الكامل كما قيل،أو الإنقراض كما أحبّ أن أقول..
مصادر البحث :
1-صلاح سالم-القومية العربية.شاهد عصر على تحولات القرن العشرين-مجلة شؤون عربية العدد 105 ص25.
2-الكلام لعالم الإجتماع المصري الراحل. د-غالي شكري – الوحدة أولا..الوحدة أخيرا (البجعة تودّع الصيّاد ص65)
3-وأيضا.د-غالي شكري-المرجع السابق-ص 60
4-المرجع السابق-ص 67
5-صلاح سالم-القومية العربية-شاهد على تحولات القرن العشرين-مصدر انف الذكر ص 25 (بتصرف طفيف).