شعرية التفاصيل في قصيدة (أسعد إنسان في العالم) لـ”منذر عبد الحر”

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 ينمازُ النَّصُّ الشِّعريُّ بوصفِهِ نصَّاً مفتوحاً وتعدُّدياً في آنٍ واحد, يكشف في بنيتِهِ الدَّلالية عن حمولاتٍ معرفية وأيديولوجية لا يجوز معها التغييب أو التجاهُل([1]), ومن ثَمَّ فهو بنيةٌ دلاليةٌ تُنتجها ذاتٌ فرديةٌ أو جماعيةٌ, ضمن بنية نصيَّة منتجة, وفي إطار بنيات ثقافيَّة واجتماعيَّة محدَّدة ([2]), إنَّ النَّص الشِّعري لا ينغلق على ذاتيته بل يحتكم إلى المرجع الخارجي،  والسِّياقات اللغويَّة والثَّقافية التي أسهمت في خلقِهِ وبنائِهِ, مع عدم تجاهل دور الذات الكاتبة بوصفِها قوةً فاعلةً في عملية إنتاج المعنى والدلالة, هذه الذات التي يُمثِّلها الكاتب أو المُرسل والقارئ في المُراسَلة الشعرية([3]), على أنَّ ثقافة الشَّاعر منذر عبد الحر تقترن بمدى تعاطيه مع مختلف المعطيات الثقافية, والتي تتطلَّب منه تجاوز محليتَهُ ونظرتَهُ الأحادية لتنتقل رؤياهُ الكونية للذات والعالَم,  إنَّ وعيَ الشَّاعر منذر عبد الحر برؤيته الشعرية هي التي رسمت المرجعيات المؤسِّسة لشخصيتهِ الإبداعية الشِّعرية, وفي مقدِّمتِها حياتُهُ العامة والخاصة التي قضى أغلبَها في مدينة البصرة ، وما تحملُهُ من قِيمٍ أدبية وعلميَّة أثَّرت في بناء أسلوبهِ الأدبي, وتلاقُح هذه المدينة مع مختلف القضايا المحليَّة والاجتماعيَّة والسَّياسيَّة, التي وجدت أثرها في منجزهِ الإبداعي لذلك فهو تفاعل مع مختلف القضايا التي مسَّت الواقعَ العراقي الاجتماعي والسياسي, كما لم يقصر نظرَهُ عن محيطِهِ الذي كان واضحاً في شعرهِ, إذ يُعَدُّ منجزُهُ مدونةً شعريةً تصدر عن رؤيةٍ إنسانيةٍ تجدُ لنفسها حضوراً في واقعها المحلي والإقليمي، وضرورة تفاعل المحلي  بعيداً عن أسباب الانغلاق أو الاستلاب, وفي قصيدة (أسعد إنسان في العالم)  تناولت تفاصيل حياة الشاعر منذر عبد الحر وهو يتحدث بتفاصيل دقيقة عن الشعراء الذين تربطه معهم علاقات طيبة وقديمة, فضلا عن ثقافته الواسعة وقدرته الفنية على صياغة المفردات في رثاء صديقه (كزار حنتوش), فنراه يقول :-

لم يكن خالد سعيدا

وهو ينتظر الباص القادم من الديوانية :

لقد تاخروا يا طالب !

                               – أنهم قادمون حتما

                          وبعد جرعتين من القلق وصلوا

لم يكن كزار حنتوش بينهم

فليتوزع الجند على حانات بغداد

بحثا عن شاعر محلق

سماؤه الطيبة [4]

أنَّ ذات الشاعر منذر عبد الحر  تستجيب للحداثة , وتتطلَّع إلى التجديد، وهذا ما جعل شعره يمتاز بحداثة البناء, وجمالية الإيقاع[5], فرغبة الشاعر تظل قائمةً لإثبات فرادتها ورغبتها في إضفاء شخصيتها التي تُميَّزها عن الشَّاعر القديم, وهذه المدَّة بالذات شهدت ولادةَ المثقف وإيمانَهُ بدورِهِ المُعبِّر عن صوت الشعب والأصدقاء وتعبيرِهِ عنهم في أشعاره , كلُّ تلك الظروف داعبت مشاعرَ الشاعر, ونحى فيها منحىً تجديدياً , فضلاً عن متبنَّيات الموقف الفكري والأيديولوجي المتمرِّد سواء على المستوى السياسي ام الفني, إذ وَجَدَ الشَّاعر التَّناقضات وحالات التَّوتُّر الشَّديد التي تُكتنف عملَهُ في بناء القصيدة وأسلوبها توتُّر بين جِدَّة المضامين, فضلاً عن تعقُّد المشاكل وعنف التجارب والمشاعر التي انتهت إليه من التي داهمت المجتمعَ العراقي وأعرافَهُ وتقاليدَه([6]), وكان من أثر ذلك أن تَرَكَ هذا التمرُّد صداهُ في تجارب الشَّاعر الإبداعية التي يقول فيها:

جيء به إلى وحشة البريق

إلى المرايا

التي لا يرى فيها سوى بكائه

لا تخلع نعليك وأنت تدخل

لا تخدع أوجاعك بالأصدقاء

دع بطاقة تعريفك مخفية [7]

  وعن النظرة التي ينصرف إليها جهدُ الشاعر منذر عبد الحر  فهي النَّزعة الإنسانية, وعلى مايرى كروتشيه فإنَّ التَّعبير ذاتي في نشأتِهِ ولكنَّه في النِّهاية موضوعي في عاقبة تعبيرِهِ عنه وهذا التعبير يتميز بالذَّاتية في تصوير مشاعر صاحبِهِ، ولكنَّه عالميٌّ في صورتِهِ الشعرية([8]) ، وعلى أية حال فَثمَّة استحقاقان خاصان بالمعاصرة لكل عصرٍ يعيشه الإنسان هما استحقاق العصر المحلي للذات الشاعرة والآخر استحقاق العصر الكوني الذي يحكم المنظومة الثَّقافية الكونيَّة([9]). إنَّ المجتمع البصري يُعدُّ باعثاً مُهماً على قول الشِّعر، وهو ماجعل العلماءَ والأدباءَ ومتذوقي الشِّعر يختلفون إليه , وينهلون من معينهِ الثَّر, ويوافقُ الشَّاعر منذر عبد الحر ما ذهب إليه الشعراء في تأكيدهم على البيئة ، وما لها من دورٍ كبيرٍ في تهيئة أسباب قول الشعر , وزيادة ثقافة الذَّات الشَّاعرة من النَّاحية الأدبيَّة، لذا فإنَّ الشَّاعر يؤكد على دورَ الطَّبيعة التي تميَّزت بها مدينة البصرة , بوصفِها إحدى أبرز عوامل ولادة الأدب , فكان للتلاقح الطبيعي الحاصل في المدينة, فنراه يقول :-

كان بانتظارك بلدا كاملا

فرشوا طريقك سحرا

صعدت معهم الى عرشك

حيث بايعوك شاعرا

نسجت لذاتك قرية

لا يدخلها الا المترفون ببهجة الحب[10]

  إنَّ ثقافة الشَّاعر منذر عبد الحر  لا تقوم على التُّراث الأدبي الحديث فقط وإقصاء التراث القديم, بل المزاوجة بينهما وتضمينهما في شعره ؛ إدراكاً منه أنَّ الإبداع الشعري  يجب أن يبقى خيطاً يربط بين القديم والجديد, ويجب أن تبقى بعض ملامح القديم في الشيء الذي نُسميه جديداً[11], إنَّ الشَّاعر عاش في بيئتين ثقافيتين هما : بيئة البصرة وبيئة بغداد، وكلاهما متألقتان في سماء الأدب والشِّعر والثَّقافة, ومتطلعتان نحو التَّجديد والمعاصرة, وهو ينفرد في نظرته إلى الحياة والمجتمع , وينماز بها عن أقرانه من الشعراء المعاصرين, ممَّا جعلهُ يظهر بصورةٍ جذَّابةٍ جعلت منه ظاهرة شعرية لها وَقْعُها الأدبي الخاص في هذه المدينة البصرة إنَّ التَّجديد الشِّعري هو رغبة تحدو الشاعر منذر عبد الحر  نحو الحداثة, مع وجود حداثات أُخَر وهي حداثات عربية بامتياز, كانت قد وجدت لها أثراً عند أصحاب التيار الشعري الحداثوي في العراق الذي نضجَ في السبعينيات, أمَّا الشاعر منذر عبد الحر فهو من الجيل الذي مهَّدَ للحداثة , فهو ومن جايلَهُ من الشعراء المحدثين  كانوا قد استشرفوا أُفُق الحداثة لكنَّهم لبثوا عند أُصولهم الكلاسيكية ؛ بسبب غيرتهم على اللغة والتراث , فنراه يقول :

يا للوعة

يا لبكائك النبيل

وأنت تبتسم

وتصيح بصوت هادئ

أنا لا ابكي

فانا اسعد إنسان في العالم

ما انبل حزنك

يا نجم الديوانية

الخالد [12]

  ويتضح في النَّص تأثير الملامح التَّجديدية التي برزت في شعر الشاعر منذر عبد الحر, إذ إنَّ النَّص جاء مخالِفاً ما ألِفناهُ في القصيدة العمودية على مستوى الشكل الهندسي من خلال اعتماد الشَّاعر نظام المقاطع , فضلاً عن ملامح جديدة في الشعر العربي , مع احتفالِهِ بعددٍ من مميِّزات الشاعر الراحل كزار حنتوش الذي جعله اسعد إنسان في العالم, ورفض الواقع المعيش بكلِّ تناقضاته, وتجري الألفاظ على نسقٍ تأمُّلي, يُريد أن يجعل منه متنفَّساً لفلسفةٍ خاصةٍ غرضُها محاكمةُ نقائض عصرِهِ, لذا فهو يسمح للغموض أن يتموضع داخل نصِّهِ الشِّعري, كما يعمد إلى قلب سياق بعض المفردات الإنشائية , التي تنفتح على عوالم لانهائية, فالتعابيرُ حُبلى بشتَّى المعاني التي تنتظر مَن يسدل الستار عنها, ويتكشف دلالاتِها الإيحائية المختلفة, وهذا بطبيعته يرجع إلى ثقافة المبدع الرائع منذرعبد الحر وطواعية لغتِهِ, والرغبة في الانسياق إلى الجديد وترك الألوان الشعرية القديمة, لتأتي صورتُهُ الفنية مستنفذةً جميعَ الوسائل التي تُحقِّق له سُبُلَ إيصال الموضوع الشعري؛ بُغيةَ التفاعل معهُ والإحساس به من قبل القارئ .

المراجع:

([1]) ينظر : الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي : 225 .

([2]) انفتاح النص الروائي النص والسياق :: 32 .

([3]) ينظر : الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي : 197 – 198 .

[4] ديوان شط العرب : منذر عبد الحر : 47 .

([5]) الحركة الأدبية في النجف : موسى كريدي , مجلة المثقف العربي  آب ، : 116 .

([6]) ينظر : تطور الشعر العربي الحديث في العراق: 556 .

[7] ديوان شط العرب : 48 .

([8]) ينظر : النقد الأدبي الحديث :: 358 .

([9]) ينظر : ثقافات منحنية في المشهد الثقافي الراهن :: 23 – 24 .

[10] شط الغرب :48 0

([11]) الخطاب النقدي حول السياب :: 367 .

[12] شط العرب : 50 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى