وصيّة في زمن الوباء

محمد موسى العويسات | بيت المقدس

واعلم يا بنيّ، أنّ الوصيّة كانت فنّا عربيّا خالصا اشتُهر به أدباء العرب وشعراؤهم وبلغاؤهم، كانوا يسارعون إليه إذا ما استشعروا قرب الفراق، أو نووا سفرا، أو حزبهم  أمر جلل، كان يضع فيه الموصي خلاصة تجربته في الحياة، وما جاد به طول تفكّره وتفكيره في هذه الحياة من نظرات ثاقبة نافعة في جلب المنفعة ودرء المفسدة، وقد جاء الإسلام فاستنّ الوصيّة وحثّ عليها، وقد غلب عليها أن تكون في مال يوصي به الرّجل لذوي القربى والفقراء والمساكين وابن السّبيل، وما عليه من حقوق للنّاس يجب أن تردّ ليبرّئ نفسه أمام الله. ولم تنته الوصيّة في العرب، وظلّت صنفا من الأدب النّثريّ على مدى تاريخه.

واليوم قد اشتدّ أمر هذا الوباء المسمّى (الكورونا)، إذ أخذ ينتشر في هذا العالم انتشار النّار في الهشيم، لا يعترف بحواجز أو حدود، ووقفت الأمم وحكوماتها دونه عاجزة، فلا هي استطاعت منعه من الانتشار، ولا وجدت له لقاحا حتى هذه اللّحظة، والأمم في رعب، وقد عطّلت مؤسّسات ومصالح ومرافق لدول وشركات وأفراد ما كانت لتعطّل ولو في حروب كونيّة. وأخذ كلّ فرد في هذه الدّنيا يخشى أن يُبتلى به، وبينا نحن في مثل هذا في بيت المقدس خرج علينا الأديب الرّوائيّ المقدسيّ الأستاذ إبراهيم جوهر مقترِحا أمرا لافِتا هو أن يكتب كلّ من يجيد الكتابة وصيّته، وبدأ بنفسه فكتب وصيته وأجاد، وقد رأيت في طلبه مقصودين، أحدهما إحياء هذا الصّنف الأدبيّ الآخذ في الاندثار في عالم الأدب، والآخر هو الجانب التّربويّ من بعث القيم الحميدة وبثّها في النّفوس. وقد رأيت في نفسي ميلا لأن أكتب وصيّة، أوجهها لهذا الجيل ولأجيال قادمة، أناديهم فيها بصيغة (يا بُنَيّ)….

فيا بنيّ، اعلم علم اليقين أنّ الكلام مسموعا أو مقروءا يُتلقى تلقيّا فكريّا، فله دلالات وله ظواهر وبواطن، فلا بدّ أن يوقف عليها، لذا كان فهم ما يكتب أو ينطق مهارة يختلف فيها النّاس، بقدرة عقل أو قوّة ربط، وهذه ميزة خصّت بها لغتنا العربيّة أكثر من غيرها، وإن لم تُنف عن غيرها. فلا تفوتنّك هذه المهارة، لا في وصيّتي هذه فحسب، بل في كلّ شأن، فإن كنت سامعا أو قارئا فلا تقف عند ظاهر الكلام وقشوره، وإن كنت كاتبا أو ناطقا فارع  حال المخاطب والمقام.

واعلم يا بنيّ، أنّ أول ما يُوصى به لدى العقلاء والعارفين هو تقوى الله، فهي رأس الأمر في هذه الحياة، وهي سرّ السّعادة في الدّارين، والسّعادة كلّ السّعادة في مرضاة الله، وما دونها هو متاع زائل، تناله وتتمتّع به فتفارقه يوما ما، وما خُلق الإنسان إلا ليعبد الله، والعبوديّة لا تنحصر في صلاة وصيام وحجّ وغيرها، وإنّما تتجلّى أكثر ما تتجلّى في التزام أوامر الله ونواهيه، فالطّاعة أسّ العبوديّة، واعلم أنّ الدّين جاء لتنظيم حياة الإنسان في علاقته بنفسه، وعلاقته بغيره، وعلاقته بربّه، فاحرص أن تنضبط هذه فيك بأوامر الله ونواهيه، واعلم أنّ قولهم الدّين المعاملة قول عظيم، لا ينحصر في المعاملات الماليّة كما يظنّ السّذج، بل يعمّ كلّ علاقة بالنّاس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعمارهم وأديانهم. واعلم أنّ فهم ما يلزمك من أمور الدّين والدّنيا أمر واجب فاسع فيه متزوّدا بأدوات الفهم التي أهمّها علم بالكتاب والسّنّة واللّغة.

واعلم يا بُنيّ، أنّه لا شيء بعد الدّين في الأهمّيّة كحسن الخلق، وهي من الدّين أولا، فقد حثّ عليها الإسلام أيّما حثّ، فقال عليه الصلاة والسّلام: ” إنّ من أقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا”، ولا علم ولا دين يحمدان في الشّخص إلا بخلق حسن، وميل النّفس لحسن الخلق هو من فطرة الإنسان السّويّة، ولا تنسلخ منه إلا نفوس مشوّهة شاذّة، وإن كان حسن الخلق زينة الفرد فإنّها أيضا من علامات الرّقيّ في المجتمع، وفقدانها في الفرد هو اختلال في المجتمع، فإنّ الأخلاق مكتسبة، وأول الأخلاق وأولاها الصّدق والأمانة، ولا يجلّي فضلهما شيء كالنّظر في ما يترتّب على ضدّهما الكذب والخيانة. فالصّدق الصّدق، والأمانة الأمانة. ثمّ عليك يا بنّي بحفظ لسانك، فالمرء مخبوء تحت لسانه، فإنّه يرفعك أو يضعك، ينجيك أو يهلكك، سيف لك أو عليك، قال الشّاعر: (لسان الفتى نصف ونصف فؤاده    فلم يبق إلا صورة اللّحم والدّم).

أمّا العلم يا بنيّ، فإنّ الوصيّة فيه نافلة من القول، والنّاس ثلاثة عالم ومتعلّم ورعاع، فاحرص أن تكون من الصّنف الأول، فإن لم تستطع فلتكن في الصّنف الثاني، وهذا أضعف الإيمان. وأمّا الصّنف الثالث فإنّي أربأ بك أن تكون منهم. واعلم أنّ الخطوة التي بين المتعلّم والعالم، هي خطوة البحث العلميّ، الذي يأتي بالجديد النّافع، الذي لا اجترار فيه ولا عَيْلة فيه على الآخرين، والعالم ليس صاحب شهادة علميّة ولقب، إنّما هو باحث مكتشف أو مخترع، ولا تصل إلى هذه المرتبة إلا بأسباب، منها أن تأخذ العلم من مظانّه، فهناك بلاد أو جامعات هي أمّ العلوم، وهناك بلاد وجامعات تنسب للعلم زورا وبهتان، ومن أسبابه النّيّة والصّبر على البحث والتّنقيب وبذل الوقت والجهد، والتفرّغ له بكلّيّتك، ليكون الشّغل الشّاغل، وفوق هذا وذاك اتّخاذ الإتقان مبدأ وأساسا. فلا يبلغ أحد درجة يكون فيها عالما إلا إذا أتقن تخصّصه، وأحاط فيه من كلّ جوانبه، وكما قال الإمام عليّ كرّم الله وجهه: قيمة المرء فيما يتقنه.        

واعلم يا بنيّ أنّ أجمل وأنفع ما يزينك ويعينك هو أن تكون مثقّفا، وذا اطلاع واسع في شتّى مناحي الحياة، ولا تُنال الثّقافة إلا بالمطالعة وكثرة القراءة، وملازمة الكتب، وما جادت به قرائح العلماء والمفكّرين وأهل الشّعر والأدب وسِير الرّجال وغيرها. ولا تُنال بهذه فقط، بل يضاف إليها معاشرة النّاس ومخالطتهم والدّراية بشؤونهم، فإنّ الحياة مدرسة، وقالوا في أمثالهم: أبناء المجالس غلبوا أبناء المدارس. وبهذا وذاك لا تكون الثّقافة أن تملأ جعبتك بمعلومات وحسب، بل هي أيضا توظيف لما تعلم في مواقف حياتيّة علميّة أو عمليّة أو فكريّة تَفيد به وتُفيد. واحرص يا بنيّ على عادة طيّبة كانت في مبتدأ هذه الأمّة والتزمتها أمم أخرى من بعدها، هو أن لا تسكت على جهل أو ترضى به. بل تبحث عن حقيقة الشّيء والحقّ فيه، وتتوسّل إلى ذلك بالتّنقيب في بطون الكتب أو سؤال أهل العلم. وإن كنت مثقّفا فإيّاك والعُجْب، وإياك والتّكبّر على النّاس، وأعرض عن أهل الجهل والأهواء، واحفظ لأهل العلم والأدب قدرهم. ولا تكثر المِراء فإنّه يؤدّي إلى الشّتات ويغري بالسّفه، ويولّد الضّغائن، ويقلّل الهيبة.

 واعلم يا بنيّ، أنّه بعلمك وثقافتك وحسن حديثك تطيب مجالسك وتأسر قلوب جلسائك وأسماعهم، وإن خالط هذا التّواضع وخفض الجناح ازددت وقارا عندهم وارتفعت قدرا.

واحرص عفا الله عنك، أن يكون لك حظّ من فنون الأدب، من نثرها أو شعرها، فإنّها ممّا يزين الرّجال، ويزيد في بيانهم، ويخلبون به العقول، ويأسرون به الأسماع، ويستعينون به على قضاء حوائجهم، فتكون بهذا من أرباب السّحر الحلال، فإن لم تكن من أربابها فليكن محفوظك منها كبيرا.   

أي بنيّ، لا تقبضنّ يدك عن معروف، ولا تتوانينّ في نصح أو قضاء حاجة للآخرين، فإنّ المعروف وقضاء حاجات النّاس فيما تقدر وتستطيع أمر عظيم، محمود العواقب، حثّ عليه الشّرع الحنيف، فقال عليه الصّلاة والسّلام: ” ولا تحقرنّ من المعروف شيئا”، ” وأحبّ النّاس إلى الله أنفعهم للنّاس”، وهذه من مظاهر التّكافل والتّضامن في المجتمع، ولا يخفى عليك حاجة النّاس لها وقد اشتدّت بهم أزمات يأخذ بعضها بأعناق بعض. وهي من أسباب توثيق المحبّة والأمن، فلا تبخلَنّ بجهد أو مال أو وقت في هذا الشّأن، ولا تلتفتنّ لجزاء أو شكر لما بذلت في الخير، لأنّها تحبط العمل عند الله، وتبطئ الهمّة إن فقدت، وتورّث المنّ والأذى.       

أي بنيّ، إنّا في عصر تتسارع فيه التّكنولوجيا وبخاصّة في مجال التّواصل بين النّاس في هذه المعمورة، فكثرت مواقع التّواصل الاجتماعيّ، ووصلت مواصل بعيدة لم تكن مُتخيّلة، وما زالت عقول القائمين عليها تجود بتطوّرات متلاحقة، وقد أسيء استخدامها، ففاقت أضرارها منافعها، فكانت سيلا جارفا دهم أجيالنا فكاد أن يتركها أرضا يبابا،  فقد هدر فيهم الوقت، وانتزع كثيرا من القيم، واستبدل بها قيما هجينة غريبة ما أنزل الله بها من سلطان، وانشغل الناس بمثل هذه المواقع عن أمور جليلة، فقد أودت بعلاقات زوجيّة وأسريّة، وتقطّعت بها أرحام، وانفصمت بها عرى صداقة وودّ، وكان منها مصائد مكر وخديعة وابتزاز، فإن كنت موصيك فيها، فإنّني موجزها في ومضات مختزِلة مغنية عن كلّ التّفاصيل، منها ألّا تبلغ فيها حدّ الإدمان، وألّا تلهينّك عن عبادة أو عن عمل هو عليك واجب، أو عن تواصل شخصيّ بأهلك ومن لهم عليك حقّ الرّعاية والوصل الدّائم، وألا تتخذها بديلا عن المطالعة والقراءة، وإن كنت منها قارئا أو فيها كاتبا فارعَ لغتك واخش عليها أيّما خشية، فإنّ هذه المواقع لها لغة مبتدعة لا ترعى قواعد ولا إملاء ولا تراكيب، وألّا تتّخذها منبرا لبثّ أسرارك وخفايا حياتك، أو وسيلة للتّعريض بالآخرين أو الإساءة لهم أو لمناكفات من يخالفونك في رأي أو غيره. واحرص أن توظّفها فيما ينفعك أو تنفع به غيرك، واحذر كلّ الحذر من شِراك تُنصب فيها من أهل الفساد والشّهوات والأعداء فإنّ وقعت فيها أوردتك المهالك. واحذر أن تأخذ منها خبرا أو علما دون تمحيص أو تدقيق فإنّها لدى كثيرين منبر للإشاعات والإرجاف.

أي بنيّ، إنّ آخر ما أحببت أن أوصيك به أن لا تنظر لنفسك أو لأمّتك نظرة احتقار وازدراء، فترى نفسك وأمّتك دون الناس في المقام، فهذه نظرة زرعها فينا أعداؤنا بعد أن أحكموا السّيطرة علينا، ومنعونا العلم، ونهبوا خيراتنا، وشوّهوا تاريخنا، وفرضوا علينا قيما ليست من حضارتنا في شيء، فوقفنا منبهرين بشخصيات قدّموها نماذج نقتدي بها، في كلّ شأن من شؤون الحياة في الأدب والعلم والسّياسة وغيرها، فألبسوا علينا، وغرقنا في مغالطات جمّة، ورحنا نجلد أنفسنا، ولا نرى لأمّتنا مستقبلا، ونسينا قوله تعالى: “وتلك الأيام نداولها بين النّاس”، فإيّاك وهذه النّظرة المتشائمة، فإنّنا ورغم ما نحن فيه ما زلنا نحتفظ بأسباب النّهوض والرّقيّ. ولن يطول ما نحن فيه، وليس هذا ضربا من خيال أو خطّا في رمال، وإنّما حقيقة قام عليها الدّليل، ألا ترى أنّ هذه الأمّة ما فتئت تتململ للنّهوض، وتتلمّس طريقه، وتحلم به، وكما قال المثل: يعطى المجد لمن يحلمون به.

وتقبّل بنيّ وصيّتي هذه، وخذ منها ما استطعت أخذه، واعلم أنّ منها ما هو خلاصة تجربة أو نظرة مستنيرة. وفقك الله لما يحبّه ويرضاه. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى