رمضان الرواشدة: عراب “النوفوتيلا” الأردنية
بقلم: رجب أبو سرية
اللوحة زيت على قماش للأميرة ديانا
بعد كل من غالب هلسة الذي يعتبر عراب الراوية الأردنية الحديثة, التي كانت قد عرفت كتابات روائية عديدة خلال القرن العشرين الماضي, لكنها بدأت تتمتع باهتمام القراء والنقاد العرب على حد سواء, منذ رواية الشاعر تيسير سبول الذي مات منتحرا في سن مبكرة, “أنت منذ اليوم”, ومؤنس الرزاز, الذي وضع برواياته المختلفة الراوية الأردنية في مكان لائق بالرف الأول من رفوف الرواية العربية, يظهر رمضان الرواشدة, كثالث هذين الروائيين, الذين أعتبرهم أضلاع مثلث الرواية الأردنية الحديثة أو المعاصرة, تشبه إلى حد كبير مثلث الراوية الفلسطينية التي تحققت عبر الثلاثي: جبرا إبراهيم جبرا, إميل حبيبي وغسان كنفاني .
وإذا كان غالب هلسة قد كتب رواياته مجايلا نجيب محفوظ, عبد الرحمن منيف, حنا مينة, وجبرا وإميل, مغتربا خارج وطنه, حيث جعل من العالم العربي كله وطنا له, فإن مؤنس الرزاز عاش الاغتراب في وطنه, من حيث كان مثقفا نوعيا, لا يمكنه التوافق أو التعايش مع السائد والمألوف من نفاق اجتماعي أو من تسطيح سياسي, فتنقل بشخوصه بين مدن وأحياء الأردن, الذين جعل منهم “أحياء في البحر الميت”, ومن هنا كان اغترابهم, فيما كان غالب هلسة قد تنقل بشخوصه بين أحياء القاهرة وغيرها من العواصم العربية, كما لو كانت هائمة على وجوهها, فمن عاش خارج وطنه, نصبح كل البلاد سواء عنده, وتكون شخوص رواياته على شاكلة صاحبها, تدمن الغربة, وتظل تبحث عما يشبه الوطن, فلا تجده فتواصل البحث في مسعى سيزيفي لا ينتهي .
لكن ما يجمع الرواة الرواد هو أمران بتقديرنا, أولهما هو الموهبة الطبيعية, كذلك النشأة الأولى التي يسميها جبرا إبراهيم جبرا البئر الأولى, وبالطبع كان غالب هلسة يتمتع بموهبة استثنائية, كما كان يتمتع مؤنس الرزاز بموهبة السرد وبمعرفة ثقافية واسعة, فيما رمضان الرواشدة, الذي اعتبره أكثر من رفيقيه التصاقا بالبيئة الأردنية, فهو لم يغادرها ولم يغترب عنها ولا فيها, لكنه نشأ في صحراء الجنوب, حيث عبق التاريخ, الذي خطه العرب الأنباط, بحضارتهم العريقة, خاصة في مجالي البناء والتغلب على شظف العيش بالحفر في الصخور, كذلك بما أتقنوه من كرم ضيافة القوافل في رحلتي الشتاء والصيف, التي كانت تمر بهم بشكل إجباري.
والأهم هو ما ظهر في مملكة الأنباط من موروث روحي, حيث ظهر الكثير من الأنبياء ورسل السماء, في محيطهم أو حتى بين جنباتهم , لكن الصحراء منحت رمضان الرواشدة المخيلة الخصبة والخيال الجامح, لدرجة أن يجعل من شخوص رواياته أشخاصا اقرب منهم إلى كائنات من ضوء, من نور أو حتى من نار, وهنا يشكل على القاريء أو الناقد, أن يجزم بأن الشخوص هي واقعية, لكن حنكة الراوي جعلت منها فراشات تحلق في سماء النص, أو أنها متخيلة, فيما مهارة القص تضفي عليها واقعية لدرجة أن يبحث كل قاريء بين جيرانه ومعارفه, ليعرف من منها هو فلان أو علّان !
أن تقرأ النصوص الروائية لرمضان الرواشدة بأدوات النقد التقليدي, وعلى أنها روايات كلاسيكية, لن تصل تلك القراءة بك إلى نتيجة منصفة, فالنصوص الثلاثة التي قرأتها_انا شخصيا_ وهي من أصل أربعة نصوص روائية, إضافة لمجموعتين قصصيتين, هل كل حصيلة الإبداع السردي للكاتب الأدبي والإعلامي رمضان الرواشدة على مدار ثلاثة عقود خلت, النصوص الثلاثة يمكن تصنيفها أولا على أنها _نوفوتيلا_ كما اعتاد متابعو الأدب السردي في مصر وصف الروايات القصيرة, والتي تذكر بما كنا نقرأه ونحن صغار قبل عقود بروايات أجاثا كريستي وأرسين لوبين وألفرد هيتشكوك, على أن النوفوتيلا ليس بالضرورة أن تعالج موضوعات الإثارة البوليسية والجرائم وما إلى ذلك, لكن أردت تقريب الصورة من حيث حجم النص.
نصوص رمضان الرواشدة الثلاثة : حمراوي, والنهر لن يفصلني عنك, وجنوبي, كل واحد منها لا يتجاوز حجمه 15 ألف كلمة, في حين تشترط المسابقات الروائية العربية _البوكر والكتارا_ مثلا أن لا يقل حجم الرواية المتقدمة للمشاركة فيهما عن 30 ألف كلمة . ليس مهما هذا الأمر على أي حال, إلا في محاولتنا الاقتراب من النصوص, للوقوف عند ما قدمته من إضافة إبداعية, هي من هذه الزاوية تضع القاريء فورا أمام ضرورة الخروج من دائرة القراءة للرواية التقليدية ببنائها الدرامي وشخوصها المتعددة, وحتى تقنياتها المعتادة.
ورغم أن الحجم مثل قاسما مشتركا بين النصوص, إلا أن تقنيات السرد تنوعت بين كل نص وآخر, ففي حين جاءت “جنوبي”, على شكل السيرة الذاتية, وكان ذلك بهدف إجراء مراجعة شخصية لرحلة العمر بأسره, وهي مراجعة لرحلة جيل بأكلمة, حمل أحلامه في الحرية والديمقراطية والوحدة العربية بين جوانحه, لكنها انكسرت على أبواب سلطات غير ديمقراطية, سلطات متعددة, منها سلطة نظام الحكم السياسي ومنها سلطة المجتمع العشائري, جاءت “النهر لن يفصلني عنك”, كمونولوج شاعري رافق رحلة تم سردها كما لو كانت بين الحلم والواقع للقدس وحواريها وأماكنها المقدسة, في ظل الاحتلال الذي يسعى لمصادرة الذاكرة, فيما جاءت “حمراوي”, نصا سرديا يتم خلاله تفاعل ما هو واقعي مع ما هو أسطوري, المتخيل والواقعي, الوهم والحقيقة, في تجاوز للزمن والأجيال, وكأن خط السرد سار على طريق ميتافيزيقي, وكان الراوي عبارة عن حكواتي, يذكر بمن كانوا يتجولون في قرانا يتغنون بالملاحم والأساطير القديمة, كأول جرعة وعي ثقافي تلقتها الأجيال العربية قبل مئة سنة حين كان معظم الناس أميين لا يقرأون ولا يكتبون.
لكل نص إذا مقولته وتقنياته وعالمه, ولا يمكن القول بأنها تمثل فصولا ثلاثة من رواية واحدة للكاتب, الذي وضع حدا بنفسه لموهبة روائية فذة ظهرت مبكرا في “الحمراوي”, ليس لأن النص حاز على جائزة نجيب محفوظ, بل لأن الكاتب أظهر قدرة سردية فانتازية, صدمت المألوف السردي قبل ثلاثة عقود, بذلك التجاوز للزمن والتداخل بين ما هو متخيل وواقعي_كما أسلفنا_ وذلك حين انغمس في الوظيفة العامة كإعلامي, وليس فقط لأنه تم استيعابه _كما قال بشكل صريح وجريء وشجاع في “جنوبي”_ من قبل السلطة السياسية, وهو المعارض النقي الطيب, الذي لم يعد بسبب ذلك الاستيعاب المثقف العضوي الذي كان يمكن أن يكونه .
فكانت حصيلة الكاتب الأدبية ستة كتب خلال ثلاثين سنة, لكن من قال بأن أهمية المبدع تكمن في كثرة كتبه, وهناك الطيب صالح مثلا, لم يكتب أكثر مما كتب رمضان رواشدة, وبقي على مدار عقود مضت وما زال, واحدا من أهم الروائيين العرب برواية “موسم الهجرة للشمال”, كذلك إميل حبيبي مثال آخر على ما نقول,, ثم من قال بأن الأدب يجب أن لا يتقاطع مع السياسة, واهم أدباء العرب كانوا مناضلين, إن كان ضد الاستعمار والاحتلال الخارجي أو ضد الاستبداد, وبعضهم كان يحتل مواقع قيادية في أحزاب سياسية, وهكذا, لكن هناك فرقا لخصه رمضان في حديثه عن المثقف العضوي الذي كان يجب أن يكونه, بين ممارس لسياسة سلطوية متسلطة معادية لجوهر الإبداع الإنساني, وبين من يمارس معارضتها, في محاولة لبناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة .
بالعودة إلى نصوص رمضان الروائية, يلاحظ أنه رسم لوحة فنتازية في “الحمراوي”, تعددت فيها الحكايا متجاوزة المكان والزمان, وقد استخدم في ذلك تقنية الحكواتي فعلا, الذي يسرد الحكايا, دون أن يهتم بتشييد البناء الروائي التقليدي, حيث بقيت الشخصيات أسيرة سردية الراوي, الذي كان هو الشخصية الوحيدة التي تتطور عبر الأحداث التي تتعرض لها, والتي تتنقل بشكل واقعي, ولكن بصورة ضبابية من مكان لآخر, والتي اتضحت لاحقا في “جنوبي” خاصة حين تحدث الراوي عن إصابته بشظية في خلدة جنوب لبنان, ففي “الحمراوي” ظهر الحدث كما لو كان متخيلا أو أنه إسقاط أو تداخل بين ما يحدث لعدد من الشخصيات عبر التقمص أو تناسخ الأرواح, لكن الحدث جاء صريحا وواضحا في “جنوبي”, حين غادر الفتى جنوبي بن سمعان الأردن إلى سوريا ومنها إلى لبنان ليدافع عن بيروت عام 1982, وكان في الثامنة عشرة, عام الثانوية العامة, وهكذا خلا السرد في “الجنوبي” من فانتازيا السرد التي كانت في “الحمراوي” .
أما في “النهر لن يفصلني عنك”, فقد اندلق النص دفعة واحدة, وكأن الكاتب كان على عجلة من أمره, أو أنه كان مشغولا بأمر ما, أو أنه ليس لديه الوقت ليكتب بتأن وباسترخاء, كان مشدودا طول الوقت, وبالمناسبة فإن لغة رمضان في نصوصه الثلاثة هي لغة اقتصادية جدا, تخلو من الإنشاء الزائد أو اللغو, أو الثرثرة, لذا كانت النصوص قصيرة, كما أنها قدمت شخصيات قليلة, لأن النصوص دارت حول الراوي, في سرد ذاتي, هو سرد السيرة الروائية, رغم أن بضعها, خاصة “جنوبي” كان يمكن أن ترسم لوحة اجتماعية لمجتمع متعدد يسكنه الجنوبيون من معان والكرك والشوبك والطفيلة , ومن الشمال الأردني والفلسطينيين اللاجئين والنور, كما فعل جمال ناجي في “مخلفات الزوابع الأخيرة”, وكان اختار نفس المكان, ولكن في حقبة أبكر, أي خمسينيات القرن الماضي, وليس سبعينياته كما فعل رمضان, لكن لم يذهب رمضان بهذا المنحى لأنه كان يهدف إلى أن يعود هو الجنوبي الذي كانه قبل ثلاثين سنة .
في “جنوبي” كانت السيرة الذاتية واضحة تماما بمرافقة الكاتب منذ أن انتقل بأسرته من اربد لمعان, إلى عمان, ثم لجامعة اليرموك, وحين عمل صحفيا, حيث تعرض لأسماء وأحداث واقعية ومعروفة تماما, وكان جريئا وشجاعا في الحديث عن نفسه خاصة في الصفحات الأخيرة التي شهدت مراجعة لكل هذه الرحلة, التي شهدت تضحية رمضان بموهبته الأدبية لصالح عمله الوظيفي كإعلامي, كذلك بمواقفه كمعارض للنظام متعدد السلطات, مقابل ما وصفه باستيعاب السلطة السياسية له مقابل امتياز وظيفي كمدير عام, وهو الأمر الذي لم يقتصر عليه وحده, بل شمل كل المثقفين اليساريين, حيث لم يعد في الأردن مثقف عضوي واحد, على حد تعبيره .
بقي أن نشير إلى أن النصوص المشار إليها احتوت تضمينات نصية عديدة, تكشف ليس فقط عن ثقافة واسعة وقراءات متنوعة للكاتب, ولكن تقوم بغرض تعميق المعنى الذي يذهب إليه السرد, فالنصوص الصوفية جاءت لتعبر عن حالة العشق الصريحة كما فيما كتبه لسلمى, أو ما اجتاح الراوي من مشاعر وهو في البلاد المقدسة, وما إلى ذلك, لكن تبقى _بتقديرنا_ التضمينات التي تعود للشاعر المصري أمل دنقل, هي الأكثر, ويبدو أنها كانت الأقرب لقلب وقلم رمضان, وأمل دنقل _لا تصالح, كان يحوز على لقب الجنوبي, إشارة لمسقط رأسه في قنا الصعيد المصري, وذلك لأن رمضان الرواشدة رأى أمل دنقل مثله جنوبيا .
ورغم أن “جنوبي” على نحو خاص جاءت كسيرة روائية صريحة أكثر من سابقتيها, إلا أن الكاتب أبدع فيما استخدمه من تعدد في مستويات السرد, فكانت الليالي السبع أشبه بسرديات شهرزاد, إضافة لدلالة الرقم 7 حيث استراح الرب, ولم يسترح الإنسان, كذلك كان عدد درجات البئر الذي اختبأ فيه عز الدين أبو حمرا 364, عدد أيام السنة موحيا, وكذلك فعل حين عنون فصول “جنوبي” بمقتطفات من حياة جنوبي بن سمعان, وتحولات الفتى الجنوبي, حيث لم يحاول أن ينفي أن السردية هنا ما هي إلا يوميات سيرة ذاتية, وهنا نشير إلى أن الاسم كان في “النهر لن يفصلني عنك” يوسف بن سمعان, وهنا صار جنوبي بن سمعان, وسمعان هو تحوير لأسم والد رمضان إسماعيل الرواشدة.
ورغم كل هذا تبقى نصوص رمضان الرواشدة الروائية روايات واقعية نعم, لكنها ليست روايات تسجيلية, رغم القدر الكبير من الحقائق إن كانت تلك التي تتعلق بالمكان أو الشخصيات العامة التي ذكرتها النصوص, أو الأحداث التي ما زالت عالقة بالذاكرة, وتحتاج فعلا وحقا, إلى أكثر من قراءة ومعالجة, لعلها تكون عبرة لقراء عاشوها ونسوها أو تناسوها, أو لقراء سمعوا عنها أو قرأوا عنها وحسب .