ذكريات قلم

هند خضر | سوريا

اللوحة للفنان النمساوي المجري: ليوبولد بولاك

ما بين سكون الّليل وهدوئه الذي يطوّق المدى من كافّة الاتّجاهات أجدني برفقة قهوتي ويراعي وألتقي بذاتي في الدّيجور بعد أن أضعتها في وضح النّهار..
في غياهب الّليالي يشقّ الظّلام خاصرة السّماء ليلقي بظلّه الثّقيل على أروقة قلبي ،أحاول أن أُخرِج النّور من رحم العتمة فأقوم بأشياء بسيطة تخصّني وحدي وتشبهني و لا أحد يفهمها سواي : أسمع موسيقا ،أقرأ كتاباً ،أصنع فنجاناً من القهوة بيدي كما أهوى وأرغب ،إنها فاتنتي السّمراء الّلذيذة رغم مرارتها ،صديقة صباحاتي وأمسياتي ،لا تتركني رهينةً بين أنامل الوحدة ولا تدعني حبيسة المزاج السّيء ،أُضيء شمعة ،أقطف باقة من زهر الياسمين لأضعها على طاولتي فيفوح أريجها حولي ،أمسك يراعي ليسيل حبره على صفحاتي ، يدوّن ما يُسعد القلوب العذارى و يُنقذ كلّ نفس تائهة وغارقة في وحل الحياة فأحاوره وكأنّني أحاور شخصاً ماثلاً أمامي :
قلت لقلمي :رويدك ،فإنّ الكلمة أمانة ..
أجابني :لا تقلقي ،فقط عندما يموت إحساسك سيغادرني الحبر ..
سألته :هل مازال لدينا المتّسع من الوقت لكتابة ما عجز القلب عن البوح به فأنا أخاف من سيفه القاطع ؟
ردّ يراعي بلهجةٍ يعتريها النّبض :الوقت بين أصابعك ،لن يتسرّب من بينها ،لن يمسي خارج تفاصيل الزّمن وأنا الخلّ الوفيّ الّذي تُملي عليه بأفكارك ومشاعرك وما عليّ إلّا أن أكون رسولاً لإبلاغ أحاسيسك للعقول النيّرة والأفئدة النّبيلة ..
إذاً لأفضي لك بما يدور في خلجاتي وما يتلألأ في فضاء ذاكرتي وأنت يا قلمي انزف مداداً على أوراقي ،اجمع حروفي و شكّل منها كلمات عساها تطال نجوم السّماء ..
اكتب أيّها اليراع :
اكتب عن الثّقة ..أليست شعوراً مقدّساً وأثمن من كنوز العالم ؟!
بلى إنّها من أسمى المشاعر الإنسانيّة وتستحقّ أن نسلّط الضّوء عليها ليعرف الكون بأكمله هذا الشّعور الذي يستغرق سنوات ليكبر ولكنّه يموت بثوانٍ …
اكتب بين السّطور عن ثقتي الْتي فاقت حجم الأرض والسّماء والبحر والشّعر والنّثر ولا تخشى أن تكتب عن هؤلاء الّذين خانوها ،فمن خان الثّقة من الواجب ذكره ليس لأنّه يستحقّ بل لأنّه لقّننا درساً قاسياً عنوانه (لا تثق بأحد )دفعنا ثمنه من طيبة قلوبنا ونبل أخلاقنا ،ربّما المحبّة المفرطة هي سبب الكوارث الّتي تحدث في أعماقنا فهي تضع غشاوة أمام أعيننا ولا تجعلنا نرى الأمور على حقيقتها ،و ربّما العطاء الفائض والّلامحدود هو سبب الاهتزازات الّتي تضرب أرواحنا فتدمّر جدارها فمن يعطي كثيراً لا يترك شيئاً لنفسه يقتات عليه بعد تذوّق مرارة الخيبات والنّتيجة واحدة انعدام ثقتنا كليّاً بالأشخاص و بمواقفهم عند أول مطبّ من مطبّات الحياة يعترض رحلتنا ،في نفس التّوقيت الّذي ننتظر فيه أن نجني ثمرة تلك الثّقة الّتي زرعناها في درب أحدهم نجده يقتلعها من جذورها ،يخونها ،يطعننا في الصّميم ويمزّقنا كورقة ثمّ يرميها ،بعيداً عن كلّ شيء نستحقّ أحياناً ما يحدث لنا وكما نعرف أنّ دروس الحياة ليست مجّانيّة ، صحيح أنّ هذه الصّفعة تؤلمنا ولكنّها تصحّح مسار حياتنا ، الغيوم السّوداء تنقشع ،يزول الضّباب الّذي يحجب العين عن رؤية الطّريق بوضوح حتّى نصل إلى برّ الأمان، نشعر بارتياح عارم وكأنّها سحابة صيف مرّت مرور الكرام وبالتّالي فإنّ الضّربة الّتي لا تكسرك فإنّها حتماً ستعلّمك ..
بهذه الهمسات أنهى يراعي مهمّته الّتي استنزفت حبره ونبضه ولكنّ وعده لي قائماً بأنّه لن يفلت يدي و سيظلّ يستمدّ مداده من نبض و روح مشاعري و يخطّ حروفي المتناثرة إلى أن ألتقط تلك النّجمة البعيدة بأطراف أناملي الحالمة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى