حكايا من القرايا… القطروز
عمر عبد الرحمن نمر| فلسطين
كان علي الديلم طقروزاً (قطروزاً) يعمل عند الحج سليم، ويأخذ أجرته السنوية، إما حبوباً أو نقداً… حسب اختياره، يبيع الحبوب، ويدّخر النقد في بنك الحج تحت البلاطة… يقطن أهل الديلم في بلدة بعيدة جداً عن مكان عمله، كان يسافر إليهم ثلاث مرات: في العيدين، وثالثة بعد موسم الحصاد، وخزن الغلة… وهو يقول ” جارك القريب… ولا أخوك البعيد” وذلك للتدليل على علاقته بالحج، ومحبته له…
لقد علم الحج سليم، ما في نفس الطقروز من انتماء له ومحبة، وعرف دافعيته للعمل ونشاطه، وحرصه على الحلال (الماشية)… فاستحقّ ترقيته بعد ثلاث سنوات، وتحوّل الطقروز من محضّر للعدة، ومجهّز لاحتياجات الحج الزراعية… إلى حرّاث رسمي شتاءً، وزارع للحب… وحاصد له، وفي فصل الصيف يتحول إلى راعٍ للحلال… حلال الحج، وهذه الترقية استدعت زيادة في الأجر، وتوطيداً للعلاقات، حتى أن الحج أسرَّ إليه أنه سيزوجه ابنته خديجة بعد موسم البيدر… وطار الديلم فرحاً بالخبر… وأصبح يترقب الموسم يوماً بعد يوم… حتى إذا جاء الأجل، وجاء أقاربه من بلادهم البعيدة… ذبح الحج الذبايح، وطبخ الطبايخ، وأولم ثلاث ليالٍ حسوماً… ابتهاجاً بعرس الديلم وخديجة… بين المواويل والزغاريد… والدبكات… نيالك يا ديلم! أكلّ هذا لك؟ يحدث نفسه… فيشع وجهه بشراً، ويطير سعادةً…
وفي يوم من أيام الشتاء، كان الجو صافياً، والشمس في كبد السماء، وقد بذر الديلم بذور الفول، وها هو يغطيها بالتراب المحروث… والغنم ترعى في الأرض البور، رأى الديلم الحج (سليم) على حماره من بعيد… فهشّ له وبشّ، وانطلق إليه، أنزله عن دابته، وسلّم عليه… أخذ الحج كابوسة عود الحراثة، علّه يتذكر ماضيه… وفجأة امتلأت السماء بالغيوم، وصار صوت الرعد يسمع من قريب، والبرق يلمع… وبدأت السماء مدراراً، صاح الحج بالديلم، أدخل الغنم إلى مغارة (الريش)، وأسرع الديلم وأطاع الأمر، بين البرق والرعد والمطر الغزير… والحج تولى أمر العدّة، وأمر البغل الذي يجرّها… وبينما كان الديلم مع غنمه في المغارة… لمعت برقة فأضاءت عتمتها، ثم فقست فيها رعدة قوية جداً… صاح الديلم مذعوراً… و(دشع) الحج سليم على المغارة… وهو يشتمّ رائحة الدهن واللحم المحروق… ياه! ما أقسى تلك البرقة… لقد حرقت عشرة رؤوس من الأغنام… في لحظة واحدة… من الماعز ستة، ومن الضأن أربعة… والديلم محشور في زاوية المغارة الشرقية يتمتم بكلمات خارجة عن إطار اللغة… ما أروعك ياحج! دخل المغارة، وكأن نظرته الأولى كانت تبحث عن الديلم، صاح فرحاً عندما رآه… الحمد لله… وتقدم منه وقبله… وهنأه بالسلامة… وقرأ على رأسه بعض الآيات، ونظر الديلم في الأغنام المحروقة… فداك… فداك… يا علي… ولا يهمك… قال الحج… وعانق الديلم…
وأولم الحج وليمةً كبيرةً دعا إليها فقراء البلدة قبل أغنيائها، وصغارها قبل كبارها، ونساءها قبل رجالها… احتفاءً بسلامة الديلم… وبعد أشهر فقط… أنجبت خديجة سليماً… وتوالت الأفراح، وقد أصبح الديلم أبا سليم…