تأملات في دعاء نبوي
رضا راشد | الأزهر الشريف
لوحة المصليين للفنان دينيه
من مجالات التدبر التى أظنها غائبة عن عقولنا ؛التدبر في المعانى التى تكمن في ثنايا الأذكار والأدعية النبوية، ولا سيما أذكار الصباح والمساء ؛لأن هذه الأذكار وحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). وفي يقينى أنه ما أوثرت هذه الألفاظ وتلك العبارات على غيرها: تردادا صباحا ومساء إلا لما تحويه من معان وقيم يحتاجها المرء في يومه وليلته؛ولهذا كانت مشروعيةالتعبد لله تعالى بها صباحا ومساء.
ولكن …
واسفاه !! قل فينا من يذكر ربه؛ وقل من القليل من يتدبر ما يذكر به ربه ؛حتى غدا الذكر ألفاظا تلوكها الألسنة ولا تعيها القلوب .
وإن مما لفت نظري في الأذكار النبوية ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولنا:
(اللهم عافنى في بدنى ،اللهم عافنى في سمعي ،اللهم عافنى في بصري،لا إله إلا أنت
اللهم إنى أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا انت)
حيث ينطوي الدعاء على :
(^) تحلية؛ (وهو الجزء الأول؛ طلب المعافاة في البدن والسمع والبصر) .
(^) وتخلية؛(وهو الاستعاذة بالله من الكفرروالفقر وعذاب القبر).
وتأمل بناء المعانى وترتيبها في جوامع الكلم ووازنها بغيرها تجد عجبا .
فلقد دعا الداعي بالمعافاة في البدن بالخلو من الأمراض ،ثم أتبعها بطلب المعافاة في السمع والبصر؛ وليس هذا من باب المعافة البدنية كما قد يتوهم بعضنا من ظاهر الكلام ؛لأن السمع والبصر هما نوافذ المعانى للعقول والقلوب ،وهما وسائل المعرفة عند البشر ،قال تعالى :(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) ، فهو يرى ببصره ويسمع بأذنه ، ثم يفكر بعقله ربطا بين ما يسمعه وما يبصره .ومن هنا يتبدى للنظر أن طلب المعافاة في السمع والبصر إنما ينصرف إلى معنى المعافاة مما يمكن أن يتسلل للعقول بواسطة السمع والبصر من أفكار وشبهات ومراء تسمم العقول وتفسد القلوب والأفئدة ، وكأن هذا الدعاء من باب المجاز المرسل الذي علاقته الآلية أو السببية، حيث ذكر الآلة وأراد ما ينجم عنها، أو ذكر السبب وأراد المسبب، فالدعاء بطلب المعافاة في السمع والبصر، والمراد: المعافاة مما ينفذ للعقول من خلال السمع والبصر .
وإذن: فمعنى المعافاة في السمع والبصر سلامة جارحتى الأذن والعين، مع استخدامهما فيما ينفع من مسموع ومبصر .
ومما يرجح أن هذا هو المعنى المراد (لا مجرد سلامة جارحتى السمع والبصر من الآفات المعوقة لهما عن القيام بمهمتهما)ما جاء في الجزء الثانى من الدعاء (وهو جزء التخلية)؛ حيث علمنا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من الكفر والفقر؛ ليكون هذا الطلب موازنا لطلب المعافاة في البدن ثم في السمع والبصر ،وكأنه صلى الله عليه وسلم لما سأل الله الشيء استعاذ بالله سبحانه من ضده؛ فالمعافاة في البدن رأس الغنى ،فكان منطقيا أن يكون ضدها هو الفقر؛ ولهذا استعاذ بالله من الفقر .ولما كانت المعافاة في السمع والبصر تستلزم سلامة العقول والقلوب من الأفكار الفاسدة والشبهات الضالة بما يحفظ على المرء دينه وعقيدته =كان الجزء الثانى من الدعاء استعاذة من ضده وهو الكفر (اللهم إنى أعوذ بك من الكفر )وكأنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم إنى أسألك الغنى ورأسه المعافاة في البدن وأعوذ بك من ضده وهو الفقر .وأسألك الهداية بالمعافاة في السمع والبصر وأعوذ بك من ضدها وهو الكفر، فعلم من النظرة الكلية الشاملة للدعاء النبوي كيف رتبت المعانى فيه ؛ حيث بنى الدعاء على سؤال شيئين:
(المعافاة الجسدية التى يفضي زوالها إلى الفقر؛ والمعافاة الفكرية التى قد يؤول عدمها للكفر) ثم الاستعاذة من شيئين هما نتاج تخلف الشيئين المسؤولين : (الكفر الذي هو مظهر زوال المعافاة الفكرية ؛ والفقر الذي هو من أكبر مظاهر زوال المعافاة البدنية ؛لأن المريض فقير مهما كان غنيا والصحيح الفتي غني وإن كان فقير المال ؛لأن الصحة أكبر رأس مال للمرء).
وإذا كانت الاستعاذة بالله من الكفر والفقر رائعة في كنف هذا السياق، تابعة لطلب المعافاة البدنية والفكرية ؛فلا أقل منها روعة الجمع بين كلمتى الكفر والفقر بما بينهما من مناسبة لفظية ومعنوية في آن .
أما المناسبة اللفظية: فظاهرة في اتحاد الكلمتين في أصلين من أصولهما (الفاء والراء) مع تقارب الأصل الثالث (الكاف والقاف) مخرجا وصفة.
وأما المناسبة المعنوية: فناشئة عن اللفظية ومدلول عليها بها؛ذلك أن الفقر خلو المرء من مظنة أسباب السعادة في الدنيا وهو المال ،وكذلك يكون الكفر ؛فهو افتقار المرء لما يحقق له السعادة في آخرته؛ وهو الإيمان !!!وسبحان من آتى نبيه صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم.
ولعله قد صار واضحا الآن أن الدعاء النبوي الآخر: […. ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أحييتنا] ليس المراد منه مجرد سلامة جارحتى السمع والبصر من أذن وعين فحسب؛ بل في سلامتهما ثم في استعمالهما نوافذ للفكر السليم للعقل؛ لأنه ما متع بسمعه من استعمله في سماع الخنا واللغو ،وما متع ببصره من تمادى به نظرا للمحرمات وانتهاكا للحرمات.
وإذا تأملت وجدت أن هذا الدعاء هو نظير الدعاء الأول ؛فقوله صلى الله عليه وسلم (متعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا) هو نظير قوله (اللهم عافنى في سمعى، اللهم عافنى في بصري) في الدعاء الأول، وقوله (….وقوتنا) أي متعنا بقوتنا هو نظيرطلب المعافاة في البدن في الدعاء الأول، كلاهما ينصب على لب المعافاة في البدن والعقل بالمعافاة في السمع والبصر نافذتي العقول ،وبانعدام هذين النوعين من المعافاة (بدنية وعقلية) يفتن المرء فتنتى الشهوات والشبهات .أعاذنا الله وإياكم منها .
غير أن الثانى زاد على الأول بأمرين: تأبيد التمتيع طيلة الحياة (أبدا ما أبقيتنا)؛وتوريثه لورثة الداعي (واجعله الوارث منا) فهل يعقل في دعاء التمس على سبيل التأبيد ثم للوارث من الداعى أن يكون مجرد سلامة الجوارح (الأذن والعين) حتى وإن استعملتا في معصية الله؟! هيهات هيهات .ثم إنه بوشك أن يقع من الأول موقع التحلية من التخلية ؛فإن المعافاة تجريد من الداءات ودفع للمضرات بخلاف التمتيع فهو جلب للمنافع وكأنه – صلى الله عليه وسلم – لما سال ربه ألا يكون السمع والبصر نافذتي الكفر للعقول والقلوب فاستجيب له، عاد فدعا ربه – وقد أمن من المضرات – أن يكون سمعه وبصره مسلكى الإيمان لعقله وقلبه.
نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا أسماعنا وأبصارنا وعقولنا