حكايتى مع مسقعة معالى الوزير !!.. يوميات كورنيش الاسكندرية (١١)
محمود عبد المقصود نائب رئيس تحرير الأهرام
كيميا علاقاتى بالآخر مرهونة عندى بهرمونات الصدق والوضوح والأصالة والوفاء والشفافية.. ولأن العلاقات الإنسانية منزوع منها هذه المواصفات فى هذا الزمان.. كانت لدى إشكالية التوفيق بين طبيعة عملي القائم على التوسع فى العلاقات وبين نفسى التى لا تستوعب إلا الأنقياء
وهذه الإشكالية كانت ومازالت تؤرقنى .. ولم يخفف وطأتها عندى إلا تلك النماذج السوية النقية التى كنت أعثر عليها بين الحين والآخر وكان من بين هؤلاء المهندس حمدى الشايب وزير النقل الأسبق – رحمة الله عليه – الذى تولى الوزارة فى عام ٢٠٠٣ على ما أذكر حتى توفاه الله وهو فى عمله..
وكان أول أمر لفت نظرى فى تلك الشخصية ولاقى عندى استحسانا وحبا وتقديرًا ليس فقط أنه مدخن رهيب مثلي؛ بل إنه على منصبه هذا كان يدخن نفس نوع السجاير المصرية الرخيصة التى أدخنها واسمها (لايت) فى وقت كان أى مقاول أنفار يضع فى جيبه السجاير الأمريكية والفرنسية باهظة الثمن ..
المهم علاقتى بالرجل مع تكرار زياراته للإسكندرية تطورت حتى إنه كان بمجرد أن يلمحنى وسط أى حشد يبتسم ويبادر هو ويتقدم نحوى ليصافحنى باليد .. وكان ينادي علي فى جولاته ويسأل: أومال الأستاذ محمود فين؟
وفى إحدى هذه الزيارات لميناء الإسكندرية قطعنا١١١١فيها جولة شاقة بين الأرصفة والشركات من التاسعة صباحا حتى الثانية ظهرا.. ورغم أن برنامج الزيارة يتضمن غداءً فسفورىا فى أفخم القلاع الفسفورية فى الإسكندرية إلا أننى كنت دوما لا أميل للمشاركة فى هذه الأمور وكان يشاركنى هذا زميل لى بوكالة أنباء الشرق الأوسط.. ولذلك بمجرد تغطيتى للزيارة انصرفت للجريدة لإعداد الزيارة للنشر وبالفعل استقليت سيارة المؤسسة التى كانت تصاحبنى وقلت للسائق طيران على المكتب وفى الطريق قمت بتحرير وصياغة الموضوع وبمجرد وصولى للمكتب سلمته لموظف الفاكس لإرسالة للقاهره ليدرك الطبعة الأولى.. وبمجرد انتهائى من هذا جاءني تليفون من زوجتى تسألنى حتيجى على الغدا ولا حتكمل كعادتك فقلت لها أنا جاى على طول فضحكت وقالت علشان تبقى عارف أنا مقضيها النهارده عامله مسقعة وبطاطس قلت لها: فضل ونعمة .. و اطمننت على شغلي فى القاهرة وهرولت باحثا عن وسيلة تصل بي سريعا لمسكني الذى يبعد نحو الـ٢٠ كيلو مترا بحي العجمى بالإسكندرية.. استقليت اتوبيس النقل العام، وتسللت بين ركابه بأعجوبه حتى وجدت موضعا لقدمى بجوار مقعد تجلس عليه سيدة فى الخمسين من عمرها ووسط شدة الزحام هذه أخذت أتفحصها اجتماعيا لأخمن محطة نزولها لأفوز بالمقعد الذى تجلس عليه وبالفعل صدق توقعي فى منتصف الطريق لمحتها تلملم نفسها لتستعد للنزول فانتابتنى فرحة غامرة خشيت أن تفسدها علي ظهور سيدة أخرى أمامى تضطرنى نخوتى لأن أتنازل لها عنه ..نعم فالعثور على مقعد وسط هذه الحشود لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم !!
وجلست على كرسى فردى وبجوار النافذة وأخذت نفسا عميقا وقلت فى نفسى دعواتك يا أمي مش سيبانى.. وأخرجت من جيب الجاكت موبايلى الجديد وكان ماركته أريكسون هذا العملاق الذى كنت أطلق عليه اسم (عبده ضيوف) لتشابه فى اللون والطول مع رئيس السنغال وقتها.. وبينما كنت أتفحص الموبايل .. وجدت رقم مدير مكتب الوزير يتصل .. وترددت لحظات فى الرد فى هذه الجو المشحون بالأصوات العالية والصراخ والحكايات و شكاوى الغلابة من ضيق العيش.. ولكننى خشيت أن يكون فى الاتصال أمر هام ورديت عليه بصوت خافت
قال :أنت فين
.. أنا ارسلت شغلى وروحت
قال: يا عم محمود الوزير بيسأل عليك
.. خير فى حاجة
قال : أحنا فى (سى جول)
وكل زمايلك هنا ومعالى الوزير قال لى أكلمك
واستطرد في كلامه معي أومال إيه الدوشة اللي جمبك دي
ولكننى تجاهلت سؤاله
وقلت له عفوا قدم لمعالى الوزير اعتذارى وامتنانى لسؤاله على .. فقاطعنى
وقال: معالي الوزير معك
وهنا أسعفتنى قريحتي على غير عادتها معي
فبادرته لاحتواء الموقف الفريد والاستثنائي
وقلت : أشكر اهتمام معاليك أنا جاى فى السكة
قال: يلا
وفجأه حل الصمت من حولى ووجد العيون كلها ترمقنى من قريب ومن بعيد وبدأ الهمس على كينونتى يسيطر على عقول البسطاء العظماء.. فكلامي مع الوزير بعث بداخلهم جمهورية الخوف التى تسكننا..وأصبحت فى موقف لا أحسد عليه وتصببت عرقا فوق عرق الكرافت والبدلة التى ارتديها وتمنيت وقتها أن تنشق الأرض وتبتلعني من شدة خجلي .. ولمحت اقتراب الباص من المطعم فنهضت من الكرسى لأجد الطريق لباب الباص خاليا من فرط تزاحم الناس على الصفين لإخلاء الطريق لي .. ونزلت تنتابنى حالة من التوتر وعدم الارتياح، ودخلت (قلعة سي جول للأسماك) بمنطقة ” المكس ” أجر قدمي
متجها لدورة المياه ثم توضأت لأسترد نفسي قبل أن أتجه للقاعة التى يجلس بها الوزير ورفاقه.. وهنا رن هاتفي لتسألنى زوجتي وصلت فين؟ قلت لها للأسف أنا مكمل فى الشغل. قالت لي: طيب متسبش نفسك من غير أكل علشان السجاير إلا أنت مبتلى بيها دي . قلت لها حاضر .. أى لقمة والسلام بس أمانه تسيبوا لى طبق مسقعة للعشاء !
واتجهت لمائدة معالي الوزير!!