أزمة التفعيلة

عمر هزاع | شاعر وكاتب سوري في قطر

أكتب هذه السطور استجابة لاستفزاز مثير حرضه داخلي منشور ‏د.عمر خلوف‏ حول العدد الاحتمالي لأوزان بحر المنسرح العروضية والبالغة (768) وزنا شعريا (له وحده)؛ والتي تمتد – بالمثل – إلى جميع بحور الشعر العربي.
فأقول:
يتبجح الفارُّون من فضاء الخليل إلى فضاء التفعيلة بسعة إمكانات الأخيرة (المفترضة أو المُتَخَيَّلَة), فيتَّهمون بحَّارة السفن الأولى بممارسة طقوسهم الملاحية على ظهر سفينة استكشافية قديمة, ولا يتورعون عن تجنيسهم بالانتماء إلى عصابة قراصنة يحتكرون الماء وينصبون شباكهم لكل سباح أو غواص, بينما ينسبون أنفسهم إلى رحلة حديثة على متن زوارق نفاثة عبر محيطات تفوق مساحات مسطحاتها المائية مساحات البحور الشعرية المعروفة التي شقت عبابَها أساطيلُ الشعر العربي حاملة أساطين إيقاعاته وأنغامه وألحانه إلى قارات المجهول لتبثَّ في أدغال بدائيتها الوحشية قيم الحب والجمال والحياة والإنسانية وتضخَّ في شريان وجودها دم الحضارة والتحديث.
وأكاد أجزم أن قلة منهم؛ فقط؛ يدركون الحقيقة الصادمة الكامنة في أن التفعيلة لا تعدو أن تكون توسعا شكليا طفيفا ومحدودا جدا (يتبعه بالضرورة توسع بنيوي وأسلوبي موائم) نجم عن تطور طبيعي كامتداد إضافي لأبعاد القصيدة العربية, وليست كما يروج لها, ويرجع ذلك لجملة أسباب يمكن حصر أهمها كما يلي:
– الهروب من تعددية البحور الخليلية وزخم اصطلاحاتها الممضة وتفرعات شبكتها الكثيفة وضراوة علم قوافيها وعدم فهم تمايز قواعد عللها وبقية ما يندرج تحت ذلك من صنوف علم العروض.
– جنوح الشعراء المستجدين (في الكتابة الشعرية) إلى هذا الفن والوقوع في كمين استسهال الكتابة عليه بالتبعية والتقليد دون انتاج أو ابتكار ملامح إبداعية يمكن ملاحظتها منذ أكثر من خمسين عاما أو تزيد؛ باستثناء حالات فردية سأشير لها خلال تفصيل المقال.
– الظن أن التفعيلة؛ هي وحدها؛ الوجه الحضاري المشرق للقصيدة والتجديد الحقيقي للشعر, وأن كسر القالب الموسيقي هو العامل الوحيد في استحداث أشكال شعرية جديدة.
– عدم استيعاب طاقة الموسيقا الخليلية بشكل واع, وعدم تقدير تيارات شحناتها المحتملة بطريقة صحيحة.
– الاكتفاء بالتفعيلة, ومحاولة الانتقام من بقية الأشكال الشعرية في إطار التشجيع على هدم القيم الموروثة وقطع الصلة بتركة ديوان العرب وجذوره العميقة.
– التنظير النقدي المرافق للشعر التفعيلي؛ والذي اعتنى بجانب انفتاح مديات الكتابة الحرة ومهد لتقنياتها وآلياتها, لكنه تجاهل؛ عمدًا؛ الإشارة لانغلاق آفاق النغم ومحدوديتها, مدفوعًا بالرغبة في التضليل من جهة أولى, وبالعجز عن التفسير العروضي من جهة ثانية, وهذه مهمة لا ينبري لها إلا ذو إلمام ودربة في علم العروض توازي وتكافئ إلمامه ودربته في نقد البنى الأسلوبية والبلاغية والتشكيلات التعبرية للغة.
وفي هذا المقام أذكر؛ إذ أذكر من الكلام؛ مقولة واحد من أشهر نقاد الشعر العربي (في مقطع على يوتيوب) يتعجب خلالها من عجز القصيدة التفعيلية عن إزاحة القصيدة الخليلية! وأن الشعراء العرب ما زالوا يكتبون القصيدة الكلاسيكية أو النيو كلاسيكية التي لا يحبها هو شخصيا ويراها زنزانة تخطف الشعر وتلقي به أسيرا في سراديبها وخلف قضبانها فتحول دون تطوره!
ولأنني أنتمي إلى فنون الكتابة الإبداعية وأنفتح عليها كلها (شعرها ونثرها), وأكتب الخليلي والتفعيلي, وأزعم أنني أفهم تقنيات تشكيل كل منهما, أجد أنه من الإنصاف والواجب أن أفسر لماذا لم تستطع التفعيلة القضاء على الشعر العربي الخليلي, كي لا ينجرف الشعراء وراء كل ما يسمعونه من تنظير معتقدين صحته وسلامة نوايا وأفكار صاحبه, فأقول:
التفعيلة شكل شعري متطور لا يمثل أكثر من إضافة محدودة (تفسح المجال للمهرة والموهوبين والقادرين من الشعراء؛ فقط؛ لضرب من ضروب التحديث وتفتح لهم أبواب القصيدة على غرف أخرى لم تنفتح من قبل, وتمكنهم من اكتشاف أماكن جديدة بقدر “معلوم”) ولهذا فهي تطور طبيعي لحركة الشعر الخليلي, وهي ابنة شرعية له لأنها مشتقة من صلبه ومتدفقة من نسغه ومقدودة من لحمه وعظمه وعصبه وما زالت تدور ككوكب في أفلاكه ولم تخترع شيئا خاصا بها وحدها؛ دونه. بل اكتفت بتوسيع (تحرير) بعض مدارات أهلَّته ومواقيتها, وأضافت بعض التقنيات الحركية والأسلوبية بما يناسب تجددها وتطورها لإبقاء جمرتها متقدة في موقد الشعر, فهي وريثته وربيبته مهما اختلفت درجات انحرافها عنه من أبسط أشكالها التي قنعت بحدَّي الاستغناء عن نظام الشطرين والقافية الموحدة إلى أعقدها التي خلخلت بتقنياتها المركبة حدود نُسقه وطُرق بنائه (كتعدد القوافي؛ والتدوير؛ واستخدام نُظم القوافي الداخلية؛ والمزج بين البحور؛ واستخدام النثر داخل القصيدة.. إلخ) في سعيها لتعويض فَقدِ الرفاهية الشعرية والجمالية الفنية الكامنة في النغم الخليلي وما يستدعيه ذلك من تلاعب خفي بالتشكيلات الشعرية والأدوات المتداولة في بناء القصيدة العربية.
ولتفسير القضية والوقوف على مكمن جدلها بحيادية منصفة يمكن للقارئ أن يعود للتفعيلة منذ بدء نشأتها حتى يومنا هذا؛ ليجد أن التفعيلة في منطلقها التحرري من قيود الخليل وسلاسله الذهبية لم تستطع أن تجري إلا على البحور الصافية ذات التفعيلة الواحدة, والتي لا تمثل إلا نصف البحور المعروفة, أي ثمانية؛ فقط؛ من بحور الشعر العربي (باستثناء محاولات قليلة لبعض الشعراء المجددين للكتابة على بحور مزيجة لم تتطور ولم تتخذ لها مدارات خاصة بها لأنها ظلت تجسد حالات فردية متفرقة في مجمل التجربة الشعرية, ومَرَدُّ ذلك عسرةُ الكتابة باستخدام تفعيلتين مزيجتين على أنهما تفعيلة واحدة كاستخدام تفعيلتي الطويل “فعولن – مفاعيلن” أو البسيط “مستفعلن – فاعلن” أو سواها..), وبهذا فقد فقدت التفعيلة مبدئيا؛ ومنذ نشأتها ومحاولاتها الأولى؛ نصف إمكانات الموسيقا العربية وما ينجم عنها من تغييرات في النغم والتطريب والتي ترجع لتعدد زحافتها التي تسمح لها بالتمدد, ثم لم تلبث بعد حين من التجربة أن فقدت نصف ذلك النصف حين وجد الشعراء أن أربعة؛ فقط؛ من البحور الثمانية المستخدمة هي الأكثر طلاقة وإتاحة حيوية لاحتواء اللغة الشعرية (هي المتدارك والمتقارب والكامل والرجز) فانتظمت عليها قصائدهم تترا, وتحولت تلك النسق الموسيقية إلى قوالب ضيقة, واتبعهم في ذلك المقلدون على غير هدى أو بينة, ففقدت التفعيلة بهذا ثلاثة أرباع طاقة النغم العربي وانحسرت في ربع وحيد يكاد – لولا وجود ثلة من المبدعين الأوائل – يكون محض تجربة مضنية للتوسع.
وتحت ضغط هذا الواقع (المؤطر داخليا بقسوة بالغة) الذي وجدت نفسها فيه صارت التفعيلة تشكو وتصرخ من ضربات قمعه, فلجأ شعراؤها إلى تقنيات وحيل عديدة للتخلص من قوالبه الصلدة التي تشكلت حولهم, وبدلا من تحررها تحولت لقيود ثقيلة تئن تحت وطأتها القصائد المتناسخة, فدوَّروا المقاطع, وسكَّنوا القوافي, وأخفوها داخل السطور, وعدَّدوها, وشحنوا النصوص بلغة خاصة ذات طبيعة شعرية, وزاوجوا بين البحور, وأدخلوا مقاطع النثر داخل بنية الشعر.., كل ذلك وأكثر للتغطية على تكرارية الأسلوب وكسر الزجاجة المستحدثة التي صاروا يدورون في عنقها باحثين عن منفذ للخروج, فما زادهم ذلك إلا ثقلا على ثقل وعسرة على عسرة.
فالتدوير الذي اتخذوه مهربًا من الخواتيم المقفاة ألجأهم إلى ملء الفراغ الموسيقي في نهايات السطور القديمة وبدايات السطور الجديدة بحشو فائض من اللفظ ليستقيم الوزن (فكثرت الصفات والظروف والحروف الزائدة التي يمكن لأي مستشعر ذوقي التقاطها بسهولة ومعرفة أنها وريقات توت ليس بمقدورها ستر سوءات المسير الشعري أو سد ثغرات المقام الموسيقي), وأما النثر الذي باعدوا به بين مقطعات القصيدة أفقدها حيويتها وخرج بها إلى حدود التنظير المفتعل, وكذلك المزج بين البحور تسبب في نشوء مطبات عنيفة أثناء محاولة تطويع اللفظ على سكك النغم, فلم ينجح إلا القلة في تجاوز ذلك, في حين وقع المقلدون في فخ الحشو والامتطاط وضرورة استبدال اللفظ بما تتيحه المساحة الموسيقية (على حساب حساسية المعنى ولمصلحة النظم الخالص), فانكشف ضعف الموهبة وظهرت عورات الشعراء التي فضحت هرولتهم ولهاثهم خلف قوالب إيقاعية مسبقة اخترعها سواهم, وظهرت سطحية أفكارهم وضحالة قيعان حواسهم, وانحسرت عن خلو تام من كل أشكال القضايا النامية في ذواتهم, وخلو آخر لكياناتهم الشعرية من الشروخ الروحية والانكسارات والتصدعات الوجدانية والشخصية لتسريب رؤيا حقيقية تصدر القصيدة عنها, فتثقبت القصائد ذاتيا قبل تعرضها لعوامل الحت والتعرية الخارجية.
ويمكن القول:
إن وضع قصيدة تفعيلية تحت مجهر الفحص العروضي والبلاغي لتمحيص جمالية فنيات التشكيل الشعري الدقيق سيظهر؛ بلا أدنى شك؛ الكثير من نقاط الضعف والتهتك القاتلة؛ إلا ما ندر من قصائد ذات حرفية عالية.
ولهذا فالتفعيلة – كما يبدو من عرضنا التاريخي والتحليلي الفني والعروضي – هي تطور وإضافة للبحور الشعرية وليست خلاصا منها أو هدما لها, ولا يمكن الكتابة عليها بشكل مدهش وفعال إلا لمن تجاوز عتبة السلامة في الكتابة على البحور الخليلية, وأتقن ممراتها وتعرف على أسرار طرقها وأساليبها, فبات بإمكانه المرور إلى مراحل أخرى من النُّظم الشعرية, والتي؛ بطبيعة الحال؛ تحتاج للمزيد من الموهبة الشعرية والوعي بطاقة اللغة وبقدرة النغم وبمساحات اللعب المزدوج عليهما بشكل رشيق وحيوي؛ من أمثال نازك والسياب وأدونيس والبياتي وسواهم ممن مهدوا نمطية أرض المتخيل الشعري لاستقبال بذور تقنيات الصياغة الجديدة, وصنعوا رموزهم وأقنعتهم وأساطيرهم الفردية التي بثوها في قصائدهم الخاصة التي تدل عليهم, والتي؛ بكل أسف؛ لم تتبعها محاولات جادة حثيثة مخلصة لاحقة؛ رغم ما نقرأه من شعر تفعيلي بكميات هائلة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى