رواية «أسد أم جفيل الأعرج» ( 14)
طارق المأمون محمد | السودان
في مهرجان تتويج ملك الماساي السنوي تجتمع أمة كبيرة من غرب ووسط أفريقيا يكنون له إحتراما توارثوه منذ القدم يأتون يوم هذا التتويج من كل حدب و صوب يحملون القرابين و الهدايا منها ما هو صغير و منها الكبير كل حسب استطاعته , و ربما تشارك أكثر من واحد عجلا أو ثورا و لكن المميزين منهم هم أؤلئك الذين يستطيعون جلب شيء ثمين يتطلب جهدا و مغامرة و ربما مال , مثل فروة أسد أو ناب فيل أو قطعة ذهب مشغولة أو غير مشغولة , كل ذلك يتقبله الملك المتوج يوم تتويجه , كما أنه يتوجب عليه تقديم عمل كبير يجعله أهلا يستحق هذا التتويج كإنزال بركة أو نزعها أو درء وباء أو شر متوقع أو عمل حسي كإصلاح بين بيتين نشب بينهما قتال و عنف أو تنمية اقتصادية ملموسة بإدارته أو ماله للناس . لكن المطلب الأساسي لجماهير هذا الملك الجديد هو عمل يحقق لهم أمانا من الأسود و قائدهم الأعرج , الذي زادت شراسته و تفاقم شره في الشمال المتاخم لهم مع ازدياد هجمات قرويي تلك المناطق على قبيلته عموما كرد فعل متبادل من الطرفين.. فكان أن دعا صالحي قبيلته و سحرتها الى اجتماع عظيم يوم “جمعة” مشهود تحضيرا ليوم العبادة الاسبوعي الكبير “السبت” ليخرجوا بخطة تتدخل فيها اليد الإلاهية بفضل هؤلاء المدعوين الذين كلفوا باستجداء السماء لتساعدهم في القضاء على هذا الأسد و بقية الأسود , فنودي في الناس أن يوم “السبت” يوم عبادة عظيم , وعلى الناس أن يخرجوا في منتصف ليلته يحملون المشاعل كل أمام بيته , ثم يتوجهوا بالصلوات لله الواحد أن يوحد قوته في درء هذا الخطر و القضاء عليه فقد استعصى الأمر عليهم كبشر محدودي القوة , فكان ما طلبه ملكهم , و اجتهد سحرتهم في ذبح القرابين أثناء قراءتهم لتعاويذ , ثم صبوا دماءها في آنية من ثمار القرع و خلطوها مع أعواد من شجر معين و ماء جلبوه من مستنقعات “جوروما” و مزجوها مزجا جيدا ثم صبوها في أناء كبير , و وزعت على صيادين أشاوس يأخذ كل واحد منهم من هذا الماء المسحور شيئا يسيرا ثم يخلطه بماء يغتسل به , يحرص على أن لا يترك موضعا إلا و قد مسه هذا الماء … ثم جيء بهؤلاء الصيادين الى اجتماع الملك الذي حضره صالحوهم و سحرتهم وعُمد وشيوخ المناطق المتاخمة لنشاط الأسود , وبعد صلاة كبيرة ودعاء بأن يبارك الله الملك وأن ييسر لهؤلاء الصيادين مهمتهم تكلم كبير السحرة و أوضح لهم أنهم محميون لن يستطيع أسد من الأسود مسهم بشر و أن الأسود ستكون طائعة في أيديهم فعليهم أن يتقدموا بشجاعة نحوها .. وأمروهم أن يرشو فوقها بقية من الماء الذي اغتسلوا به ولا يمسوها بسوء كذلك , و أن يخاطبوهم طالبين منهم أن يأتوا لهم بالأسد الأعرج ليقابل الملك الذي سيكون في مكان قريب من تجمعات الأسود , ثم عليهم أن يعطوا الأسود مهلة يومين ليعودوا و معهم الأسد الأعرج, فإذا جاء الأسد العرج عليهم أن يحدثوه بلسانهم فإنه سيفهمهم و يقولوا له بأنه في أمان الملك وحمايته الشخصية حينها سيأتي معكم .
بعد أسبوع من خروجهم وجد الصيادون قطعان الأسود راقدة مسترخية تحن ظل شجرة فتقدموا نحوها بثبات كبير , و من عجب أنها لم تتحرك بل حركت أذيالها في إشارة ترحيب بهم , فلما وصلوها أخرج كل واحد منهم علبة بها ماء ثم أخذوا يرشونها به ثم تقدم رئيس الصيادين قائلا :
– أين ملككم الأسد الأعرج فإن ملكنا يريد أن يتحدث إليه … و سنعود إليكم بعد يومين في مثل هذا الوقت آملين حضوره لكي نذهب معه إلى الملك الذي ينتظره في مكان قريب من هنا…
انتخب كبير السحرة اثنين من سحرته ليرافقوا معه الملك الجديد و اتخذ الملك من الصالحين الحكماء رجلين ليكونا في وفده الى ملك الأسود الأعرج”جاري ماتا” فصار الوفد مكونا من أربعة رجال خامسهم الملك و بعض الأتباع و الحرس في موكب متواضع لا يتعدي العشرة أشخاص , يركب الملك ثورا كبيرا وضع فوقه هودج يليق به , أما بقية الوفد فيركبون حصينا مطهمة مزينة تشي بمكانتهم, فلما وصلوا الى موضع أشار به عليهم كبير السحرة نزل الملك ونزل من بعده الجميع و انزلوا رحالهم و فرشوا بساطه المعتاد الذي يجلس عليه و كان مصنوعا من جلود الأسود مخيطا بعضه الى بعض ليكون عريضا وواسعا , ثم صفوا فوقه نمارق يتكأ عليها و يستريح و جلس بقية الوفد في فرش جلبوها معهم ليقعدوا عليها ,و قد كان مسيرهم بعد يوم من مسيرالصيادين.
وفي ضحى اليوم التالي و الترقب سيد الموقف والصالحون تحت الشجرة يرفعون أيديدهم الى السماء في تضرع و ابتهال شديدين والسحرة يرتلون تعاويذهم ويتراقصون في حركات يعرفونها على بعد قريب منهم , و الملك جالس على أريكته غير عابئ بما يدور أو هكذا بدا رغم ظهور علامات قلق يتفرسها الذي ينظر إليه بدقة , ظهر الصيادون العشرة يمشون في صفين في مقدمة الصف الأول كبيرهم و في مقدمة الصف الثاني صياد آخر و بين الصف الأول و الأخير صفين من الأسود يتقدم أحد هذين الصفين أنثى أسد ضخمة تسير في عزة و تبكل يتناثر من عينيها وقار و هيبة مرفوعة الرأس كأنها تنظر الى السماء لا إلى اللأمام , وعن يمينها أسد ضخم كثيف شعر الرأس عريض المنكبين مرفوع الرأس يسير في خطوات ثابتة واثقة لا يعرف الناظر إليه من بعيد أ يمشي متبخترا أم في مشيه عرجة …وقف الجميع إلا الملك الذي ظل في مكانه لم يتحرك تعلوه هيبة تضاهي هيبة الأسد القادم بين جنود ملك البشر و جنود ملك الغابة..
توقف ركب “جاري ماتا” على مسافة تسمح للملك البشري التقدم لاستقبال ضيفه الكريم بما يليق بمقامه بينما تقدم الصيادون الشجعان يقفون خلف السحرة الذين تقدموا قبل الملك الذي وقف و وقف خلفه الأتباع الى جلالة الملك العظيم الأسد الأعرج “جاري ماتا” ثم أخذوا يرقصون رقصات لها معاني عندهم يضربون الأرض بأرجلهم ضربات ذات إيقاع ثم يستديرون دورات محسوبة ثم ينثنون حتى يكادوا يلامسوا الأرض ويقومون في حركات موقعة و هم يتلون تعاويذ نسجت كلماتها لأول و آخر مرة على هذا الكوكب ..و تقدم كبيرهم يحمل غصنا, ويحمل الاثنان الآخران إنائين من قرع, بداخل كل واحد منهما ماء له رائحة غير محببة ذات لون أحمر , أدخل كبير السحرة غصنه في الإناء الأول , و قام بالتقدم الى جهة مليكه و نثر عليه من الماء الذي علق في الغصن, و أفرغ بقية الماء على الصالحين الحكماء الذين معه و على سحرته , ليكونوا شهود صدق على ما دار من حوار بين الملكين , ثم رجع مرة أخرى و كرر نفس الشيء مع الإناء الثاني ثم توجه الى الأسود التي كانت تنظر إليه في استغراب و فعل معها نفس ما فعل مع الملك ثم تقدم الى الملك قائلا: الأسود و مليكها الأسد الأعرج جاهزة لتتقبل استقبالك و التحدث إليك يا مولاي..
.يتبع….
*طارق المامون*