“ركام” ٢٠٢١.. الوقت أو سيرة لوحات ناطقة
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
الركام الذي صنع منه ميسرة بارود حالة فنية في غزة لم يكن سوى كثافة إبداعية مركزة وضعها بكل ما فيها من وجع وألم خفي أمام نوافذ الوقت كي نطل عليها في عبورنا المتوتر مساحات الذاكرة …
صاحب “قوارب الملح ٢٠١٨” و”فسفور أبيض ٢٠٠٩” يواصل منهجه الفني في الغوص عميقاً في بانوراما المشهد والخروج من متاهة الضجيج برؤية فنية صافية تنحاز لذلك الشعور الخفي في أعماقنا، شعور يبحث عن الخلاص من التوتر المصاحب للضجبج، الخلاص من تداعيات الحزن والغياب ومفردات الحروب والحصار والتي التصقت بيوميات غزة خلال الأعوام الماضية – على الأقل – وما زالت تشكل ذلك الفضاء الرمادي الموازي، الضبابي الثقيل، الخانق كغبار منازل بعد الغارات والقصف والخوف الغريزي والهدم …
توقفتُ أمام الصور التي قام المركز الفرنسي في غزة بنشرها مؤخراً عبر السوشيال ميديا لمعرض ميسرة بارود الجديد في غزة بعنوان “ركام” …
هناك في تلك القاعة الأنيقة المعدة لعرض اللوحات تتخذ المأساة دورها المركزي في استقبال الفضول …
غير أن اللوحات المعلقة على الجدران تبدو وكأنها لا تستجدي ذلك التعاطف “الانساني” مع الضحية بقدر ما تشير إلى حوار ضروري مع الحدقات الزائرة، حوار يعيد إلى الوقت بُعداً ناقصاً يتمثل في كيفية استعادة الذاكرة لمفرداتها بعناية وكبرياء …
وربما يفسر هذا طريقة العرض المميزة والتي تشير إلى حركة خفية لم تتوقف عن الدوران، أو حديث يواصل الانسياب بعفوية ودون تكلف.
كأننا أمام غزة التي ما زالت تواصل بناء أسقف بيوتها المهدمة في ذات الوقت الذي تواصل فيه الحياة دون جمود أو سكون هزيمة يخيم على المكان أو اللوحات …
لذا فإن هذا المشروع الفني يدفعنا إلى القبول بفكرة أن الإبداع في تجلياته المتعددة يشكل أحد تمثلات المعنى في أسطورة العنقاء القديمة، فالعنقاء المولودة حسب الأسطورة من رماد قد لا تعني بالضرورة غزة- المكان وإنما غزة- الروح أيضاً، ذلك العناد الفطري والإبداعي المتمثل في الاندفاع نحو استعادة الحياة بعد كل “موت” …
من الصعب إذاً تأمل تلك الخطوط المتشكلة لوحات “ركام” بمعزل عن السيرة الشخصية والمكانية للجغرافيا أو كمجرد بوابات فنية لعوالم الحرب بل على العكس تماماً فإن تلك الخطوط تشير في تشكلها الإبداعي إلى قناعة راسخة بأنه كلما غاص الانسان أكثر في معنى المأساة الخفي اكتشف عوالم أكثر عمقاً من السرد الرسمي والسياسي والإخباري للحدث …
وهنا تظهر ذروة الإبداع في التقاط تلك اللحظات الخاطفة من بيت فكي المأساة الموغلة في افتراس الوقت كوحوش أساطير عتيقة …
ملاحظة أخيرة:
مرة أخرى ينتصر الإبداع بجدارة في غزة، وتطل لوحات “ركام” كرسائل إبداعية وكأنها متزامنة مع صوتِ طَرَقات الحرية على جدار الخزَّان والتي دوَّت مؤخراً من صهريج جلبوع العسكري …
وأصبحت امتداداً لمسيرة الصمود والإبداع الفلسطيني …
هكذا يمكننا أن نرى فلسطين المعاصرة، كحالة وطنية، فنية، انسانية، كونية لا تعرف الهزيمة …