البعد العاطفي في النهضة الحسينية
مهند مصطفى جمال الدين | العراق
اتفق اغلب علماء النفس والفلاسفة على أن العاطفة أسبق من العقل، بل هي التي تزوده بالأحكام الاخلاقية فتكون مصدرا رئيسا للمعرفة، لا سيما الدينية والعقائدية منها، كما ذكر الفيلسوف (دفيد هيوم)، وأضاف بأن لا وجود لاعتقادات دينية قابلة للبرهان العقلي، معتبرا أن العاطفة جزء من الطبيعة البشرية، وهي موجودة في دواخلنا بقدرة كاملة، لا يسبقها شيء، وليس للعقل تأثير في السلوك والاخلاق وبناء الاحكام، إذ إن العقل ميدانه الواقع ليس الا، في حين أن القرارات الاخلاقية تؤثر في السلوك الانساني، ولا يحصل هذا الامر الا بما تقوم به المشاعر للتعاطف مع الغير بعيدا عن الانانية، وهو ما يفسر كثيرا من الظواهر والسلوكيات المتملكة للعواطف الخيرة، التي جبل عليها الانسان بفطرته، ومنها ايثار المحبوب على النفس، وتحمل المشاق في سبيل الحصول على رضاه وإنْ تضمن ذلك الامر التضحيات المادية والمعنوية، ومصداق ذلك ما يتجلى من صور في احياء ذكرى الامام الحسين وتغليب طلب الرضا والتقرب له على كل ما سواه.
ولكن على الرغم من ذلك يتساءل قليلٌ او كثيرٌ من الناس، ممن مضوا او ممن عاصرناهم، عن الفلسفة او الحكمة من وراء الدموع والأسى والجزع على مصاب الحسين (عليه السلام)، وعن معنى هذه الممارسات الحزينة والمتجددة وبأساليب مختلفة على رجل أدى ما عليه من موقف مشرف قبل الف واربعمائة سنة، لاسيما اذا كنا نؤمن بأنه قد حقق أهدافه، وكافأه الله على تضحيته الكبيرة، بكونه سيدا لشباب أهل الجنة، وأن التاريخ قد حفظ له بطولته برفضه الجور والظلم والاستبداد، فحري بنا – على وفق هذه الرؤية- ان نستذكره بعيدا عن الحزن والأسى والألم، بما يليق به بطلا وقائدا فذا، صنع لنفسه كل هذا المجد والخلود.
وبالحقيقة أن هذا الاستفهام مشروع وعقلائي جدا، ولذا أجاب الكثير عن هذا التساؤل، معلقا إجابته على الجانب الغيبي الديني، بمعنى أن استذكار الحسين بهذه الكمية من الدموع والجزع هو تعبدي محض، وذلك للروايات المستفيضة، ومن الطرفين، والتي فيها استثارة للعواطف الجياشة من خلال بكاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) حين استذكار المشهد المروع للقتل، والتي لابد للمؤمنين ان يتأسوا بفعلهم عليهم السلام، بل هناك روايات عديدة تحثهم على تذكر الامام الحسين بهذه الصور الشجية الحزينة حينما يحل عليهم شهر محرم الحرام، وهناك روايات أخرى مستفيضة ايضا تذكر الثواب العظيم لمن بكى وابكى.
وعلى كل حال فإن الروايات متعددة ومتنوعة وبعبارات مختلفة ولكن المضمون واحد، ويمكن أن يطمأن الى صدورها من المعصومين (عليهم السلام)، ولا نجانب الحق لو قلنا أنها متواتره مضمونًا ..
ويمثل لذلك بما نقله الحر العاملي في (وسائل الشيعة) في صحيحه عن عبد الله بن سنان قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) يوم عاشوراء ودموعه تنحدر على عينيه كاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : مم بكاؤك ؟ فقال: أفي غفلة أنت ؟ أما علمت أن الحسين (عليه السلام) اصيب في مثل هذا اليوم.
ويمكن ان نذكر نماذج أخرى من تلك الروايات وردت في كتاب (كامل الزيارات) لجعفر ابن قولويه المحدث الشیعي) المتوفى 367هـ)، وكتابه يعد من الكتب المعتمدة، والتي حصل الاطمئنان بصدور أحاديثه عنهم (عليهم السلام)، فضلا عن استفادة العلماء في توثيق كل رجال الاسناد او بعضهم، كما تم تفصيله في بحوث رجالية متخصصة، ومن اراد الافادة فليرجع الى ماذكره المحدث النوري والسيد الخوئي والسيد السيستاني وغيرهم.
ومن هذه الروايات :
1- عن ابي عبد الله (عليه السلام)، قال: نظر امير المؤمنين (عليه السلام) الى الحسين فقال: يا عبرة كل مؤمن، فقال: أنا يا ابتاه، قال: نعم يا بني.
2- حدثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن العلا بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام (يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليهما السلام( دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا…
3- حدثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن أبي عبد الله الجاموراني، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول :إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنه فيه مأجور.
4- قال أبو عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل له :ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله عز وجل، ولم يرض له بدون الجنة.
5- عن أبي عمارة المنشد، قال: ما ذكر الحسين بن علي (عليهما السلام) عند أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) في يوم قط فرئي أبو عبد الله(عليه السلام) في ذلك اليوم متبسما إلى الليل.
6- عن الامام الصادق أن الحسين (عليه السلام) ينظر إلى من يبكيه فيستغفر له ويسأل أباه الاستغفار له ويقول: أيها الباكي لو علمت ما أعد الله لك لفرحت أكثر مما حزنت وأنه ليستغفر له من كل ذنب وخطيئة.
7- قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام) قال: فأنشدته، فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون – يعني بالرقة – قال فأنشدته:
امررْ على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية
قال: فبكى، ثم قال: زدني، قال فأنشدته القصيدة الأخرى، قال:
فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلما فرغت قال لي:
يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعرا فبكى وأبكى عشرا كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرا فبكى وأبكى خمسة كتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرا فبكى وأبكى واحدا كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين (عليه السلام)عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنة.
ونحن نتفق مع الاجابة المتقدمة المعتضدة بالروايات، والتي تتسق مع الرؤية المعروفة من كون الحزن والاسى ملازما لذكرى استشهاد الامام الحسين، غير انا يمكن أن نعمق السؤال المتقدم، وهو لماذا اختار النبي والأئمة المعصومون هذه الآلية المتمثلة بالبعد العاطفي في ذكرى اسشهاد الحسين؟
ولا يفهم من هذا الكلام قصر القضية الحسينية على هذا البعد فحسب، وانما هناك ابعاد متعددة مرتبطة بالقيم النبيلة، لا تقل أهمية عن البعد العاطفي، كالبطولة والشجاعة والايثار والتضحية والحفاظ على الكرامة الانسانية وغيرها من المثل الجلية في نهضة الامام الحسين، وكذلك ما يرتبط بالمبادئ الدينية والعقائدية والافكار الاجتماعية والانسانية.
فإذن لماذا كل هذا التحشيد الروائي على الجانب الوجداني والتركيز على العاطفي منه؟
وقد انسحب هذا الامر على الموالين، إذ طغى الجانب العاطفي على الابعاد الاخرى، وأضحى الحزن سمة مائزة في الشخصية الشيعية الموالية، وانطبع على وجدانها، واثر في كل انساقها الثقافية والاجتماعية والفكرية، وتمظهر هذا الامر في كل الفعاليات الحياتية والسلوكية والاجتماعية.
ولكن هذا الاستغراق في الحزن الحسيني قد ولد اشكالات عند من يعتنق رؤى مغايرة، ومن اهمها هو سؤالهم المتكرر: لماذا لا تقدم القضية الحسينية من خلال البحوث العلمية والمؤتمرات والافكار والمفاهيم الحديثة، بدلا من ممارسة شعائر وطقوس يغلب عليها طابع البكاء والندب وضرب الصدور وغيرها من الطقوس المتنوعة.
ويمكن أن نجيب على كل ما تقدم بالآتي:
أولا: فيما يتعلق بالروايات فانها صادرة من نبي مرسل او إمام معصوم، ومن المعلوم انهم لا ينطقون عن الهوى، وهم أعرف بطبيعة الحدث والانسان، ويعلمون تماما أن القضية وصاحبها لا يمكن لهما الخلود الا بتثوير البعد العاطفي.
ثانيا: لعل الحكمة من اختيار الجانب العاطفي هو أن الانسان بجبلته تكون مشاعره الحزينة اقوى واكثر تأثرا وتأثيرا من مشاعر الفرح او المهيمنات الفكرية والعقلية، وهو ما اثبته علماء النفس من إن الجانب التراجيدي يُحدث هزة في النفس الانسانية، وتمتد الى فترات زمنية طويلة، وتتحول الى مثيرات نفسية، تقوم بربط كل ذكرى حزينة بتلك الذكرى الاصيلة.
والشاهد على ذلك، لو أن هناك قصة تكتب بتقنية مجردة من العاطفة، فسيكون التلقي باهتا، ولن يعلق في الذهن الا لحظات قصيرة، ولكن لو كتب نفس القصة كاتبٌ اخر بتوظيف العاطفة واضفاء الحزن عليها، لكانت اكثر علوقا والتصاقا وتأثيرا، وتدفع القارئ الى اتخاذ مواقف اكثر من الاستجابة الآنية.
ثالثا: إن الحزن والبكاء يجذران شخصية الحسين في اعماق نفوس الموالين، بحيث تكون شخصية الحسين جزءا من الذات المحبة والموالية، فيغدو البكاء مثيرا داخليا لمشاعر لا تتحقق الا على القريب من النفس، واحسب ان هذا الامر يفسر كيف يشعر الموالي بأن الحسين يعيش في داخله بمختلف مراحل حياته ويذكره اكثر من ذكره لأمه وأبيه.
رابعا: إن الحسين كما نصت الزيارة هو (ثار الله وابن ثاره) وفي ذلك دلالات على أن الثأر قد اسند الى الله تعالى، وأنه لم يؤخذ بدمه بعد، بمعنى أن طلب الثأر ممتد زمانيا ومكانيا، ويبقى متجددا للقصاص من كل من يعتنق الظلم وينتهك حرم الله، ولابد أن تبقى نار الثأر متقدة، ولن يتحقق هذا الامر الا بالبعد العاطفي، فهو الحافز الرئيس للثورة والنهوض ضد الظلم والجور والطغيان، والامثلة على ذلك لا حصر لها .
خامسا: حفظَ التاريخُ البعيد والقريب محاربة الظالمين لمجالس العزاء الحسيني والحزن والدموع الحسينية؛ لأنهم(اي الظالمون) يدركون انها ثورة حقيقية ضدهم، وهي القادرة على تحشيد الثوار للانقضاض عليهم، فكان الدمع والصوت واللطم سيوفا بتارة ترعب الظالمين، مع ما يمتلكون من قوة وبطش، واحسب أن هذا الامر كافٍ للتدليل على اهمية البعد العاطفي وضرورة التمسك به.
سادسا: يعد البكاء والحزن من مصاديق الرحمة في قلوب المؤمنين، والتي إستعاذ من فقداتها الامام الصادق عليه السلام بقوله: ( اللهم أني اعوذ بك من عين لاتدمع وقلب لايخشع )، فتلازم الرحمة واظهارها في قلوب المكلومين يرتبط بصدق ايمانهم ورقة قلوبهم .
وأخيرا فإن قوة الحزن وضعفه تعتمد على أهمية المحزون عليه، وقربه من النفس والروح والعقل، فلابد من اظهار حزن يليق بمنزلة الامام الحسين (عليه السلام) وتضحيته في سبيل الله، فضلا عن قسوة اعدائه وبربريتهم، فالحزن والبكاء مرتبط بالجزع، ولكنه أمر منهي عنه ومذموم الا على الحسين (عليه السلام)، فلنا ان نحزن ونبكي اهلنا، لكن لانجزع لفقدهم، بينما نرى ان الروايات تبيح جزعنا على الامام الحسين بقول الصادق عليه السلام ((كل الجزع والبكاء مكروه ،الا الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام ))..