قراءة فنية في قصة « الغزال المقدّس » للقاص: د. محمد كبلو
زياد مبارك | السودان
محاولة للبحث عن الرمز بعيداً عن عمود الإنارة!
قصة مدهشة وكفى حيث لن أسعى لتوضيح ذلك، يكفي ما ذكرته لجنة التحكيم بمسابقة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة في دورتها السابعة ٢٠٢١ عن أسباب انتخابها لهذه القصة، وسوف أقوم بلصق بيان التحكيم الذي تواطأتُ مع عنوان المقال على وسمه بعمود الإنارة، والذي سأبحث على مبعدة منه عن الرمز بالقصة، ذاك البعيد المرمى – حقا – عن بقعة الضوء المتمددة أسفل العمود. بيان اللجنة:
«وقد حازتْ قصَّةُ “الغزال المقدَّس” على جائزة المسابقة لاشتغالها الرفيع على المسكوت عنه عبرَ علامتين من علاماته الأثيرة: الدين والسياسة اللذين يندمجانِ في ساحة السرد: مشكِّلَينِ بؤرةً متفجَّرةً بالتوتُّر والمفارقات، والمرارة، ونقد الراهن وتفكيكه وكشف أسراره، وعبق السخرية الذكية أيضًا؛ فبضرباتِ فرشاةٍ سردية حاذقة تضيءُ القصَّة مثل برق خاطف حزمةً من الخيوط المتشابكة: الشظايا الخطرة لانهيارِ الواقع بفعل أعاصير الخرافة الجارفة، كتائب الربِّ المدجَّجة بالهوس؛ عبثية الحروب وهزلية القائمين عليها، السردياتِ الكبرى التي تنخرُ بأدقِّ تفاصيل المعيش واليومي، لوثة عداء الآخر التي تتغذِّى من سُعارِ الأيديولوجيا، انفلاتَ الشعارات الزاهية عن ممارسات الواقع لتسقط في أول اختبار – كل هذا دون أن ينبسَ الراوي ببنتِ شفة ليدينَ أو يشجبَ أو يحاكِمَ، أيْ دونَ أن يتورَّط في أيديولوجيا مضادة يمكن لها أن تحيلَ ذهبَ السرد إلى نحاس؛ فهو نفسُه منغمرٌ فيما يحكيه حتى أذنيه، وبينما ينزلق لمستنقع الغباء الإنساني حتى موته المجاني يظلُّ يحكي ببراءة الغافل: ” لطالما تساءَلتُ عن الغباءِ الإنسانيِّ، حيَّرَني قِصَرُ نظر العبادِ وسطحيتُهم!“».
• • •
التلخيص: تبدأ القصة بحوار ثنائي بين الطفل وأبيه (يجيبني والدي دون أن تفارق عيناه الصحيفة التي بين يديه: نعم يا صغيري إني أسمعك).. وتنتهي بحوار ثنائي أيضا بين البطل الذي التحق بأصحاب الشعارات الجهادية فيما بعد: (مرحبا بك يا بني، لقد أبليت بلاء حسنا، أنا فخور بك وبإخوتك… مرحبا بك إلى الجحيم). وبين البداية والنهاية (الحوارين) تكمن المفارقة مثل اللغم الذي يتهيأ للانفجار بالضغط ثم ينفجر بتحرير رأسه.. هذه المسافة النصيّة البعيدة بين طرفي المفارقة (البنوة للإنسان والبنوة للشيطان) لغّمت النص نفسه ليفجّر الدهشة والأثر الصاعق بالقفلة.. لن أنزلق أكثر في التفتيش عن جماليات القصة لأنني أكّدت على حصر بحثي عن الرمز.. ثم، ما بين الحوارين القصيرين.. يكبر الطفل ويدخل الجامعة يتبنى الفكر الجهادي مع جماعة من زملائه الذين (جعلوهم فانجعلوا).. وفي ساحات الجهاد كاد الجوع أن يلقي بهم إلى التهلكة.. حتى خرج عليهم أثناء صلاتهم وهم على أهبة الصيام غزالٌ أبيض كالثلج، (انذبح) و(انسلخ) و(انشوى) لهم بكامل إرادته بدون تدخّل منهم، ليتباروا إليه ويتهارشوا على لحمه حتى فتكوا ببعضهم، قبل أن تهوي إليهم مجموعة من الذئاب لتقتات على المجاهدين ويظل البطل على قيد الحياة وحيدا ثم يظهر الشيطان مُرحبا به في الجحيم.
• • •
الانقلاب السردي: ما حدا بي للإشارة إلى الرمز (الغزال) أنه يستفزّ للبحث عن دلالته في مرماه البعيد بالمساحة المظلمة.. يبدأ التمهيد له: (صلينا وسألنا الإله أن يرسل علينا المن والسلوى… وقبل أن نفرغ من الصلاة لمحنا غزالا جميلا أبيض اللون).. ولكن تحوّلت الوجبة إلى معركة وحشية طاحنة: (أحطتُ عنق جنديٍ كان يسد الطريق أمامي بذراعي وخنقته حتى فقد وعيه وتهاوى أرضاً. أخرجت خنجري من غمده وسددت طعنة نافذة إلى جندي آخر كان يحول بيني وبين الطعام).. (قام أربعة من رفاق الجهاد بإمساك ساقيّ وشدي محاولين سحبي إلى الوراء وهم يُكبّرون، حاولوا إزاحتي عن اللحم حتى يتسنى لهم الوصول إليه. فشلت في مقاومتهم، فتشبثتُ بفخذ الغزال بكل ما أوتيت من قوة. استمروا في سحبي إلى الوراء).. وهذا التكبير الذي انعطف من مسار الجهاد ضد أعداء الدين إلى مسار التهارُش والاقتتال على لحم الغزال يشكّل الانقلاب السردي الذي يموضع هذه الحالة الساخرة في محلها المجرّد من ديكور الأيديولوجيا والشعارات الرنانة.. هذا الرمز (الغزال) الفاعل للانقلاب السردي، الذي سبّب بظهوره الانتقال من القتال في سبيل الإله إلى الاقتتال في سبيل الغزال.. وأخيرا يهدأ الحدث ليدخِر طاقته في تفجير القفلة: (نظرت صوب جثة الغزال.. ما زالوا يصطرعون حولها في شراسة. قلّ عددهم كثيراً بعد سقوط مزيد من الموتى والجرحى. بعدها حدث كل شيء بسرعة. تعالى عواء الذئاب.. هجم العشرات منها على جنود جيش الرب. لم تبقي على أحد حي. التهمَتْ لحم الغزال ولحم البشر حتى أصابتها التخمة).. وهنا آخر ذكر للغزال إذ تسرّب لحمه بين أنياب الذئاب.. (أما أنا فقد كنت فريسة سهلة لجرائها. أحاطوا بي، تشمموا ملابسي ورأسي عدة مرات قبل أن يطبق أحدها أنيابه على رقبتي. بعدها أظلمت الدنيا من حولي تماماً. لبثتُ دهراً من الزمان قبل أن أستعيد وعيي، أو هكذا ظننت. النيران منتشرة في كل مكان حولي، الحر لا يطاق، السماء حمراء، تحجب معظم أرجائها سحب دخان سوداء. كان واقفاً هناك.. كائن بشع.. بلا شكل محدد.. سألتُه بصوتٍ مرتجف: من أنت وأين أنا؟ أطلق ضحكة مخيفة قبل أن يقول بصوت أجش: مرحباً بك يا بني.. لقد أبليت بلاء حسناً.. أنا فخور بك وبإخوتك.. فخور بكم يا أبنائي الأعزاء… أنا أعرف باسم إبليس… فمرحباً بك إلى الجحيم).
• • •
الترميز: الغزال الأبيض، الذي أتى فيما يشبه الاستجابة الإلهية للدعاء رغبة في المن والسلوى، التناص العكسي مع المطلب “البني إسرائيلي” المفارقة الساخرة التي أخرجت لسانها هنا لنوال ذات المصير: الضرب عليهم بالذلة والمسكنة والهبوط إلى مصر.. تلك المعركة (بينهُم)؛ المستوى الأعلى من سعار الأيدولوجيا الذي يغذي لوثة عداء الآخر، نعم هي لوثة ضد الآخر، وانضافت إليها لوثة تقطيع إخوة السلاح والدرب في معركة (بينهُم) الكبرى، لتمرِّر السؤال في شريط الإلحاح بالشاشة التي قرأنا فيها هذه القصة (إلامَ يرمز هذا الغزال؟). خصوصاً أنه بدأ كمعجزة وتسبّب في تهارُش الإخوة على لحمه كالكلاب، لينتهي مصيره معهم في مَعِد الذئاب. ربما كان الغزال هو السُلطة التي يتهارش عليها من هي بأيديهم حتى تصير نقمة عليهم، فيغرى هذا الوضع من يتكالب عليها وعليهم. ويمضى من تاجر باسم الدين لأجل السلطة إلى الجحيم تاركا خلفه تلك الذئاب لتعبث من بعده كما تشاء بالساحات والبلاد.
• • •
اللا بدّ من قوله: القصة مستفزة إلى حدود الما بعد.