في استحضار الغائب

الشاعر سميح محسن

1) استهلال:

من أينَ أبدأُ؟

كيفَ أحتملُ الكتابةَ في المراثي

بعدما فاضَت بحورُ الشِّعرِ بالموتى،

وأنهكني العذابُ المرُّ؟

لي عتبٌ على لغتي التي أنساق أحياناً لمرماها،

وأحياناً أطوّعها،

وإن كانت تعاندني لقهرِ الموت،

أعاتبُها على لا شيء…

أعلِّقُ فوقَ جدرانِ القصيدةِ

رسمَ قافلةٍ من الأحباب،

لقد رحلوا بصمت غامضٍ

والموتُ يرصدُ خطوَنا،

عيناهُ واسعتانِ

يصفعُ روحَنا، ببرودةٍ،

ويداه عاريتانِ

لا يخشى صنائِعَهُ

يحثُّ خطاه نحو مصيرنا…

(مقطع من النص الشعري فائض بالموت، سميح محسن/ منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية 2020)

2) في استحضار الغائب:

نعيب على المؤسسة الرسمية سياستها في تلميع أسماء وتغييب أخرى تبعاً لثنائية المعارضة والموالاة، ولكننا، نحن ضحايا هذه السياسة نمارسها، سواء عن قصد، أو دون انتباه بحقِّ بعضنا. يعيش بيننا مناضلون حقيقيون، وكتّاب وفنانون ومفكرون ومثقفون …إلخ لكل واحد منهم إبداعاته في مجال تخصّصه، أو ترك بصمة في حياته وحياتنا، ولكننا لا ننتبه لقيمتهم ومقامهم إلا بعد غيابهم عنّا، فنسارع للحديث عنهم بالفعل الماضي، وتسليط الضوء على تجاربهم، أو أحياناً تكريمهم بعد أن رحلوا. حول هذا الموضوع كتب الصديق الناقد د. عادل الأسطة عن الشاعرة سلافة حجاوي التي رحلت عن عالمنا قبل أيام معدودات وذلك بعنوان: “نبحث عنهم حين يموتون”. وحول هذا الموضوع سأكتب عن صديق قديم رحل عن عالمنا قبل أيام معدودات أيضاً، إلا وهو الشاعر والروائي والناقد محمد الأسعد.

في البدء أنوّه إلى أن الكتابة عن هذا الصديق تستند إلى تجربة علاقة شخصية امتدت لأثنتي عشرة سنة (1978 – 1990)، ثم انقطعت كنتيجة لحرب الخليج الأولى، أنا عدت إلى البلاد لأستقر فيها، وهو ذهب في رحلة هجرة أخرى إلى قبرص، ثم عاد إلى الكويت التي مكث فيها حتى رحيله، ولم يسعى أيٌّ منا للتواصل مع الآخر، وهنا أسجّل نقطة علي وليس لي. لعل ما سيأتي من حديث حول جانب من هذه العلاقة يقدم إضاءات حول شخصية هذا الكاتب.

3) عن البدايات

أذكر أنّ أول قصيدة نُشرت لي كانت على صفحات جريدة (الوطن) الكويتية عام 1978، وكان نشر تلك القصيدة (التي لم أعد أتذكرها اليوم) بداية تفتّح عينيّ على الحركة الثقافية في الكويت، والتي كان للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين القسط الأكبر في إنتاجها، والانخراط فيها. في ذلك العام تعرّفت على العديد من الكتّاب، وكان من بينهم الصديق محمد الأسعد.

تعرّفت على الأسعد شاعراً، ومع مرور الأيام تطورت هذه العلاقة، وكان للصديق القاص والمترجم تيسير نظمي المقيم في عمّان حالياً دوره في ذلك. لقد التفت الكاتبان، الناثر نظمي والشاعر الأسعد، في وقت مبكّر إلى حياة الفلسطينيين في الكويت، وبؤس حال آلاف العائلات التي كانت تعيش على الكفاف، وبخاصة ذلك الجيل الذي سبقنا إليها، وقضى أيام شظف العيش فيها. هُجِّر الأسعد مع عائلته طفلاً من قرية (أم الزينات) عام 1948، وعاش طفولته لاجئاً في جنوب العراق، وإلتحق نظمي مع عائلته عام 1967 من سيلة الظهر بأبيه الذي كان يعمل دهاناً في الكويت. لقد انحدر الإثنان من عائلتين شديدتي الفقر، فإنتبها إلى قضية الصراع الطبقي، وكان عدد لا بأس به من الفلسطينيين هناك قد دخلوا في دائرة مصالح رأس المال، ومارسوا فعل إضطهاد أبناء جلدتهم، وذلك من خلال سيطرتهم على مفاصل المؤ الشمسسسات التي تنظم حياة الفلسطينيين في الكويت.

لم يكن عبثاً عندما أشار عليّ هذان الصديقان قراءة رواية الكاتب الشهيد غسان كنفاني “رجال في الشمس” ومجموعته القصصية “موت سرير رقم 12”. لقد أرادا بهذه الإشارة لفت إنتباهي إلى البيئة التي أعيش فيها، ثمّ الكتابة عن حياة الفلسطينيين في الكويت. على صعيد الكتابة النثرية واصل الصديق القاص تيسير نظمي مسيرته الكتابية على النهج الذي أبدعه كنفاني.

4) الأبعاد الإنسانية

كانت قصائدي الأولى تفيض بالمباشرة والحماسة الزائدة، وكانت فلسطين حاضرة فيها، وذات يوم سألني الصديق محمد الأسعد: “عندما تتحرر فلسطين، ماذا سنكتب؟! في فلسطين عشرات الشعراء الذين يكتبون عنها، أما نحن فعلينا أن نلتفت إلى واقعنا، وأن نعكس الجوانب الإنسانية لقضيتنا، ولشعبنا ومعاناته اليومية”. من خلال هذا التوجيه غير المباشر بدأت رحلة التجريب، والقراءات المختلفة عن سابقاتها، وغصت في قراءات شعر المقاومة الإنساني الأوسع، ومن خلال علاقتنا قرأت مايكوفسكي، لوركا، ناظم حكمت، نيرودا، ألبرتي، أراغون، بول إيلوار، فضلاً عن قراءة العديد من الشعراء العرب، بمن فيهم شعراء عاشوا في الظل كالشاعر العراقي الراحل محمود البريكان الذي قضى مذبوحاً في منزله من قبل عدو مجهول!

خلال علاقتنا التي امتدت لأثنتي عشرة سنة ترك الصديق محمد الأسعد أثراً لا أنساه فيما أكتبه حتى يومنا هذا. لم يمارس، كما كان يدعي بعض الأصدقاء، دور الأستاذ على تلاميذه، وإنما من خلال هذه العلاقة، والحوارات، اكتسبت تجربة جديدة، لا أنكر دوره في توجييها.

5) عن علاقته بالشهيد ناجي العلي

عاش رسام الكاريكاتير الفلسطيني والعابر للقارات الشهيد ناجي العلي فترتين منفصلتين في الكويت. كانت علاقتهما، قد تجذّرت منذ رحلة العلي الأولى هناك، وبعد عودته إليها إثر خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، استمرت هذه العلاقة، وتجذّرت بشكل أعمق. شهدت تلك المرحلة المزيد من الانقسامات الفلسطينية التي أفرزت حالة من الاصطفاف.

الشهيد ناجي العلي الذي كان يتحدث بلغة الناس البسطاء، ويكرر مقولته الشهيرة: “أنا ما بحب لغة المثقفين” كانت تربطه علاقة لا انفصام فيها مع كاتب يمتلك ثقافة عالية، ومتنوعة، وصحفي صاحب موقف نقدي، وكأنّ كل منهما يكمل الآخر. كان الشهيد ناجي العلي يتلقى التهديد تلو التهديد من (مجهولين)! قبل إبعاده من الكويت، وبعد إبعاده، واغتياله، امتلأت صفحات الصحف الكويتية بالكتابة عنه، ويومئذ قال الأسعد: “أين كان كل هؤلاء عندما كان ناجي يتعرض للتهديد؟!”. أجبته: “إنهم يتاجرون بدمه يا صاحبي”. لقد ظلّ محمد الأسعد من أكثر الناس وفاءً لمسيرة وسيرة ناجي العلي حتى يومه الأخير.

6) السهل الممتنع

مَن كان يعرف الشاعر والناقد والروائي والمثقف الموسوعي محمد الأسعد عن بُعْد، كان يرى فيه تلك الشخصية المتعالية، و”الجادّة أكثر من اللزوم”، أو حتى الغامضة، ولكن مَنْ كان يعرفه عن قرب، يكتشف شخصيته الحقيقية، فهو إنسان متواضع لكنّه معتد بنفسه، مرحٌ وصاحب ظلّ خفيف. في مرات عديدة كنت أرافقه في زياراته إلى عائلته في مدينة الزبير في الجنوب العراقي، وكنت ألمس عن قرب دفء علاقته بهم. كنا نلتقي بشكل شبه يومي في مقر أسبوعية (الطليعة) الكويتية، صحيفة حركة القوميين العرب، حيث كان يعمل فيها، أو في بيوتنا الضيّقة التي كانت تتسع لنا، أو في مقهى شعبي. وأما في السفر فقد ترافقنا مرة واحدة عام 1985 في مهرجان المربد الشعري في بغداد.

7) نبل الأوفياء

في عام 1992، وأثناء عملي في أسبوعية (الطليعة) المقدسية تلقيت إتصالاً هاتفياً من الصديق الراحل الكاتب الصحفي نواف عبد حسن، وكان يعمل آنذاك مدير تحرير مجلة (كنعان) في الداخل الفلسطيني، وقال لي: “أنا أبحث عنك منذ فترة، وأخيراً اهتديت إليك”. وعندما سألته عن سبب ذلك أجابني قائلاً: “أنا أعمل في مجلة كنعان، وأتواصل مع صديق لك مقيم في قبرص، وهو الكاتب محمد الأسعد، وقد طلب مني التواصل معك للكتابة في المجلة”.

كان معنى هذه التوصية كبيراً في النفس، فمن جانب رأيته تعبيراً عن الوفاء، ومن جانب آخر رأيته تقديراً لتجربتي، ومواقفي، وبالفعل كتبت العديد من المقالات في المجلة المذكورة.

//  بعيداً عن السرد

موتٌ سريريٌّ،

غيابٌ اختياريٌّ، أقولُ، وكان عمداً،

للهروبِ إلى الأمام…

في ليلةٍ مشحونةٍ في رغبةٍ للانعتاقِ من الكآبةِ،

علّني صادفتُ ضوءاً في النّفق،

طوّفت ذاكرتي،

لتبحثَ في الفضاءِ الرّحبِ عن صحبِي الذين تركتهم

متناثرينَ على الأفق،

خبرٌ كصاعقةٍ يطوّقني،

أحاولُ أن أكذَّبَهُ،

لأنجو من عذاباتِ الضمير،

خبرٌ صغير:

(مقطع آخر من النص الشعري فائض بالموت)

24 أيلول 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى