في ذكرى رحيل إدوارد سعيد وحيدر عبد الشافي.. وقصة شعار “الثقافة مقاومة”

د. إيهاب بسيسو | فلسطين

في مثل هذا اليوم، ٢٥ أيلول عام ٢٠٠٣ تناقلت وسائل الإعلام الدولية نبأ وفاة المفكر الكبير البروفيسور إدوارد سعيد، بعدها بسنوات في ٢٤ أيلول ٢٠٠٧ تناقلت وسائل الإعلام الدولية أيضاً نبأ وفاة المناضل الكبير الدكتور حيدر عبد الشافي.

///

رحل إدوارد سعيد بعد أشهر من الحرب على العراق عام ٢٠٠٣ والتي جاءت على طريق تغير سياسي واسع في المنطقة العربية.

رحل حيدر عبد الشافي بعد أشهر من سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في حزيران ٢٠٠٧ والتي شكلت  وما زالت تشكل أكثر المنعطفات تحدياً في تاريخ القضية الوطنية الفلسطينية.

///

في السيرتين الوطنيتين والمعرفيتين لهاتين القامتين العديد من المحطات والمواقف الوطنية التي خاض غمارها كل من إدوارد سعيد وحيدر عبد الشافي كل من موقعه الوطني والثقافي في ظل واقع سياسي فلسطيني وعربي ودولي بالغ التعقيد أمام التطلعات الوطنية الفلسطينية.

في ذات السياق  ما زالت شخصية الدكتور حيدر عبد الشافي تمثل تلك الصورة الوطنية النقية والمتوهجة رغم مرور ١٤ عاماً على رحيله في أيلول ٢٠٠٧،  شخصية عملت بكل عزيمة وإخلاص من أجل صون الحق الفلسطيني، فكان أحد أبرز رواد العمل الوطني خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ولعلي أذكر كثيراً تلك القاءات العائلية في بيته أو بيت والدي في غزة، كانت تلك اللقاءات تمثل دروساً شخصية مبكرة وإضافية في الإصرار والمبادرة والعمل الدؤوب من أجل الحق في الحرية والعدالة …

ولعل دور الراحل الكبير د. حيدر عبد الشافي في تأسيس جمعية الهلال الأحمر لقطاع غزة في مطلع سبعينيات القرن الماضي والدور الذي قامت به الجمعية وما زالت كمركز طبي وثقافي واجتماعي مميز يعكس مدى عمق رؤية الراحل الكبير  الذي لم يكف في سنواته الأخيرة عن المناداة بضرورة تعزيز النظام لمواجهة الفوضى، النظام القائم على المأسسة والديموقراطية والتكامل في الفعل والرؤية الوطنية.

///

لم يترك د. حيدر عبد الشافي إرثاً مكتوباً أو سيرة ذاتية كما فعل بروفيسور إدوارد سعيد ولكنه ترك سيرة عمل وطني وشهود يتناقلون رواية الأيام  – جيلاً بعد جيل – مع الكثير من التفاصيل السياسية التي خاضها كقامة وطنية فريدة في أصعب الظروف وأشدها ضراوة.

ومع إصدار كتابين ظهرا بعد وفاته هما “د. حيدر عبد الشافي ضمير الشعب” عن مركز حيدر عبد الشافي للثقافة والتنمية ٢٠١٣ و”الدكتور حيدر عبد الشافي الرجل والقضية” للباحث والكاتب الصديق الأستاذ نعمان فيصل والذي يقع في ١٢٠٠ صفحة والصادر عام ٢٠١٨

أصبح من الممكن متابعة بعض من سيرة هذه القامة الوطنية بشكل توثيقي يحفظ للدكتور حيدر عبد الشافي بعضاً من الحق الوطني للأجيال القادمة.

///

يعد انشغال إدوارد سعيد بالحالة الفلسطينية استثنائياً لصالح المتابعة المكثفة والتحليل العميق والنقد الرصين، فكتابات المفكر الكبير والتي كانت تظهر – إلى جانب مؤلفاته الأكاديمية باللغة الانجليزية – عبر جريدة الأهرام ويكلي وغيرها من المطبوعات الأوربية والأمريكية، إضافة إلى العديد من المقابلات الإعلامية والتي تم ترجمتها إلى اللغة العربية من قِبَلِ العديد من الأسماء الثقافية المميزة في فلسطين والعالم العربي، شكلت وما زالت تشكل مرجعاً ثقافياً ووطنياً وتاريخياً إلى حد بعيد لمعرفة طبيعة ومختلف أبعاد التفاعل السياسي مع القضية الوطنية الفلسطينية، خصوصاً خلال السنوات التي سبقت إندلاع الانتفاضة الفلسطينية ” انتفاضة الأقصى” عام ٢٠٠٠ وبعد اندلاع  الانتفاضة حتى وفاته في مثل هذا اليوم قبل ١٨ عاماً، في عام ٢٠٠٣.

///

قبل سنوات قليلة، قمت في وزارة الثقافة الفلسطينية بإطلاق شعار “الثقافة مقاومة”، كانت تلك الفترة مشحونة بالكثير من التطلعات والعمل القادر على انتزاع زمام المبادرة الثقافية من خلال خلق حالة ثقافية تفاعلية قادرة رغم مختلف أشكال التحديات على الحفاظ ولو بالحد الأدنى على الفعل والحراك الثقافي المؤثر والقابل لمزيد من التطور والتأثير مع تطوير السياسات والتشريعات الثقافية اللازمة لصوت الإبداع الفلسطيني والمساهمة في تشكيل رافعة وطنية متكاملة مع مختلف مؤسسات العمل الوطني والأهلي في فلسطين والخارج من أجل فلسطين.

ولعلي أراني للمرة الأولى وبعد مرور تلك السنوات لا أجد فرصة أهم من ذكرى رحيل إدوارد سعيد لتوضيح سياق ولادة هذا الشعار في عام ٢٠١٦ والذي تعزز حضوره الفعلي ثقافياً في عام ٢٠١٧ في ذكرى مرور مائة عام على وعد بلفور ومرور مائة عام على ميلاد سنديانة فلسطين الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان.

حين فكرت في إطلاق شعار “الثقافة مقاومة” كان ذلك من وحي كتابات إدوارد سعيد، المتعددة وتحديداً من وحي كتاب “الثقافة والمقاومة” الصادر  عن دار الآداب في بيروت عام ٢٠٠٣.

///

لعل قناعاتي الراسخة بأن الثقافة فعل مقاومة، تعززت من مصادر ثقافية عدة من أبرزها إشارة غسان كنفاني المبكرة لأدب المقاومة في فلسطين المحتلة، إضافة إلى كتابات إدوارد سعيد اللاحقة والتي شكلت مصدراً ملهماً ومركزياً  للوعي الوطني والثقافي وعليه أصبح شعار “الثقافة مقاومة” يعكس هذا الإرث الغني من الإبداعات الفلسطينينة في مختلف المجالات بدلالة الفعل الذي تقوم به الحركة الثقافية لصالح تعزيز الهوية الوطنية ومفهوم الحرية والعدالة.

لم يكن نحت الشعار بالصيغة التي ظهر فيها على المطبوعات وفي الفعاليات الثقافية قفزة في الهواء بل محاولة صريحة للخروج من مأزق التحديات المختلفة بصيغة مقبولة ومعقولة لتطوير السياسات الثقافية الفلسطينية  من خلال توظيف الذاكرة في الحاضر والمستقبل.

” الثقافة مقاومة” من هذا المنظور تشكل امتداداً لمفهوم الصمود حيث الصمود مقاومة، والتعليم حيث التعليم مقاومة والبقاء قيد النضال حيث النضال من أجل الحرية مقاومة.

ما زلت أذكر تلك المقولة الهامة لإدوارد سعيد حول الثقافة والمقاومة والتي دفعت لصياغة الشعار بكل ما يحمل من بساطة وعفوية ودلالة في المعنى:

“عندما تكون الهوية السياسية عرضة للتهديد .. فإن الثقافة تمثل أداة للمقاومة في مواجهة محاولات الطمس والإزالة والإقصاء .. إن المقاومة شكل من أشكال الذاكرة في مقابل النسيان .. وعلى هذا تصبح الثقافة على قدر كبير من الاهمية” (صفحة ١٤٣ الثقافة والمقاومة، دار الآداب بيروت ٢٠٠٣).

///

ملاحظة قبل الأخيرة: لقد ترك حيدر عبد الشافي وإدوارد سعيد لنا الكثير لنتذكره ونعيد قراءته وتأمل السياقات التاريخية والمفاصل السياسية شبه المكررة في الحالة الفلسطينية للاستفادة من تطوير رؤية وطنية أكثر استجابة لحقوق شعبنا الفلسطيني من أجل حرية فلسطين من الاستعمار والقمع والاضطهاد والأسلاك الشائكة.

ملاحظة أخيرة: رثاء شاعر فلسطين الكبير محمود درويش لإدوارد سعيد يصلح لأن يكون أيضاً رؤية بالغة الدلالة نحو المستقبل:

“… قال: إذا متّ قبلَكَ,

أوصيكَ بالمستحيْل!

سألتُ: هل المستحيل بعيد؟

فقال: على بُعْد جيلْ

سألت: وإن متُّ قبلك؟

قال: أُعزِّي جبال الجليلْ

وأكتبُ: “ليس الجماليُّ إلاّ

بلوغ الملائم”. والآن, لا تَنْسَ:

إن متُّ قبلك أوصيكَ بالمستحيلْ!

عندما زُرْتُهُ في سَدُومَ الجديدةِ,

في عام ألفين واثنين, كان يُقاوم

حربَ سدومَ على أهل بابلَ…

والسرطانَ معاً. كان كالبطل الملحميِّ

الأخير يدافع عن حقِّ طروادةٍ

في اقتسام الروايةِ/

نَسْرٌ يودِّعُ قمَّتَهُ عالياً

عالياً,

فالإقامةُ فوق الأولمب

وفوق القِمَمْ

تثير السأمْ

وداعاً,

وداعاً لشعر الألَمْ!” …

— انتهى الاقتباس —

لروح إدوارد سعيد ومحمود درويش وغسان كنفاني وفدوى طوقان وحيدر عبد الشافي الخلود في الذاكرة وفي ملكوت السماء المقدسة …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى