جميل السلحوت يكتب:” مرحلة عشتها” من أدب الرحلات والسيرة الذاتية (8)
جميل السلحوت يكتب:” مرحلة عشتها” من أدب الرحلات والسيرة الذاتية (8)
أدب الرّحلات مرّة أخرى:
أتيحت لي الفرصة لزيارة عدد من البلدان العربيّة والأجنبيّة، ولم تقتصر زيارتي لهذه البلدان على التّمتّع بجمال الطّبيعة أو العمران الذي رأيته في تلك البلدان، بل تعدّته إلى البحث والمقارنة بين ما رأيته وبين الموجود في بلادي، وكنت كثير الأسئلة حول الأمور التي تلفت انتباهي؛ كي تترسّخ حقيقتها في ذهني،ومن البدان العربيّة التي زرتها المملكة العربية السّعودية وذلك في نوفمبر 2009 ، وممّا كتبته عن مشاهداتي فيها:
بعدظهر يوم 15 تشرين الثاني-اكتوبر- 2009م ذكرى إعلان استقلال فلسطين الذي أعلنه الرّئيس الرّمز الراحل ياسر عرفات في دورة المجلس الوطني في الجزائر العاصمة في مثل هذا اليوم من العام 1988م، استقلينا طائرة من الخطوط الجوية السّعودية، من مطار عمّان في طريقنا إلى الرّياض، وها أنا في هذه الذّكرى وبمناسبة “القدس عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2009م” أحلق في أجواء مدينتين عربيتين حرّتين، فشعرت بسعادة أورثتني يقينا بأنّ الاحتلال زائل، وأنّ شعبي سيحقّق حقّه في تقرير مصيره،وسيبني دولته المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف، لكنّني استعجلت الأمور وتساءلت متى سيتحوّل حلم التّحرّر والاستقلال وبناء الدّولة إلى واقع؟ فنحن أجدر النّاس بالحرّيّة، ونتمنّى أن لا يقع شعب تحت الاحتلال الأجنبيّ. كنت أمدّ نظري من نافذة الطائرة، وكأنّني أريد أن أشبع ناظري من أرض العروبة، لكنّ الغيوم كانت تحجب عنّا الرّؤية، فالطائرة تحلّق على ارتفاع تسعة وثلاثين ألف قدم كما أخبرنا قبطانها، وبعد مرور حوالي السّاعة والنصف بدت لنا جوانب من مدينة الرّياض، فخفق قلبي من رهبة وجلال الموقف.
نزلنا أرض المطار… وكان في استقبالنا السّفير الفلسطيني جمال الشّوبكي، وكان بجانبه الأمير السّعودي سعود بن مساعد مدير دائرة المسرح في وزارة الثّقافة السّعوديّة، وبعض موظّفي الوزارة، فلفت انتباهي هدوء الأمير وتواضعه وسمار بشرته التي اكتسبها من جزيرة العرب، واصطحبونا إلى صالة كبار الضّيوف حيث احتسينا القهوة العربيّة (السّادة) المشبعة بالهيل ذات اللون الأصفر المائل إلى الإخضرار.
ومن هناك توجهنا إلى فندق (الهوليدي إن) الذي أعدّه مضيفونا لاستضافتنا فيه، وعلى مدخل الفندق كان في استقبالنا وكيل وزارة الثّقافة السّعوديّة الدّكتور عبد العزيز بن محمّد السبيّل، بابتسامته العريضة الحييّة ، وبتواضعه ونبل أخلاقه.
واصطحبنا إلى بهو الفندق حيث تنتصب لافتات مكتوب عليها ( أيام فلسطين الثقافية من 15-20 تشرين الثاني 2009م.
مساء الجمعه وصباح السبت كانت لنا لقاءات مع موظفين كبار من وزاره الثّقافة السعوديّة، ومنها لقاءات مع وكيل الوزارة الدكتور عبدالعزيز بن محمد السبيّل الذي غمرنا بلطفه، وحسن حديثه وحسن اصغائه أيضا، واستعداده لتلبية جميع طلباتنا بما في ذلك تعديل البرنامج الذي وضعته وزارته، يعاونه في ذلك عدد من كبار موظفي وزارته منهم الأساتذة: عبدالرحمن الرقراق، دخيل بن عبدالله الرّاقي ، وعبدالهادي القرني، وليعذرني الآخرون لأن ذاكرتي لم تسعفني في حفظ أسمائهم، لكنّهم جميعهم غمرونا بدفء محبتهم ونبل أخلاقهم، وقد وضعوا تحت تصرّفنا عددا من السّيّارات مع سائقيها جاهزة لنقلنا الى أيّ مكان نريده، وفي أيّ زمان نريد، ولفت انتباهنا الأخلاق العالية التي يتحلّى بها السّائقون أيضا الذين التزموا الصّمت، فلا يتحدّثون إلا إجابة عن سؤال أو تلبية لطلب، وباختصار شديد، ومن الملاحظ أن الأخوة السعوديّين يتكلمون اللغة الفصيحة مع العرب الزائرين، لأنّها لغة التّفاهم بين العرب، ويتخلّون عن لهجاتهم المحليّة كي يستطيع الآخرون فهمهم، وهم لايسرفون في الكلام حتّى في المزاح فجملهم قصيرة ومفيدة.
في بحر يوم السّبت خرجنا جماعات إلى بعض الأسواق الشّعبيّة و(المولات) الحديثة التي تضاهي مثيلاتها في دول أوروبا وأمريكا، بل تزيد، ولفت انتباهنا أن مساحة مدينة الرّياض وحدها تصل إلى عشرة آلاف كيلو متر مربّع، ويزيد مواطنوها عن السّتّة ملايين شخص، حتى إنّها امتدّتإلى مناطق البدو الذين يسكنون البيوت الحديثة، ويركبون السّيّارات الحديثة وتركوا ماشيتهم وإبلهم في البادية مع رعاة من دول عربيّة كالسّودان وغيرها،- ممّا يذكر أنّه تمّ توطين جميع البدو في السّعودية- ومما يلفت الانتباه اتّساع شوارع المدينة ذات الاتّجاهين، والتي يزيد كلّ اتجاه فيها عن ستّة مسارات، ويفصل الاتّجاهين في غالبيّة الشّوارع جزيرة مزروعة بالنّخيل والأشجار الأخرى غير المثمرة، كما لفت الانتباه أنّ امتداد المدينة واتّساعها بطريقة أفقية، ويبدو أنّ اتساع مساحة ملكيّة الأرضي له دور في ذلك، والتّوسّع الأفقي لا يعني عدم وجود أبراج، فهناك أبراج مكوّنة من عشرات الطّوابق وبأشكال هندسيّة رائعة، فإحدى الأبراج مبني على شكل قلم ضخم عظيم، وإحداها على شكل سفينة، والعمل في تطوير المدينة قائم بشكل متسارع، ففي الطريق من الفندق إلى مطار الرياض هناك غابة من الرّافعات (الونشات) المقامة بجانب ابنية قيد الإنشاء. ومن اللافت أيضا أنّ غالبيّة العاملين في المحلات التّجارية هم من الوافدين الأسيويّين مثل الباكستان، بنغلادش ، الهند ، تايلند ، الفلبين …. إلخ . وفي أسواق الرّياض الشّعبيّة يجد المرء كلّ مايجول في خاطره وبأسعار مقبولة.
أيّام فلسطين الثقافية
تمّ الافتتاح في مركز الملك فهد الثّقافي في الرّياض، وهو بناء حديث محاط بالحدائق، وطريقة ترتيب حدائقه وشوارعه لافتة، فيه بهو فسيح جدّا بجوانبه عدد من القاعات والصّالونات ومسجد وصالتان للمسرح، ويقام فيه استقبال المعارض الفنّيّة والثّقافيّة، وقد عرض في أحدى جوانبه الفنّانان التّشكيليّان الفلسطينيّان نبيل العناني وحسني رضوان تسع عشرة لوحة لهما وللفنان سليمان منصور على هامش الاحتفالات، كما شاهدنا فيه يوم الأربعاء 18/11/2009 م مهرجانا للأطفال يأتي في نطاق احتفالات المملكة بيوم الطفل العالميّ.
وكان على رأس حفل افتتاح مهرجان”أيام فلسطين الثّقافيّة” الدّكتور عبدالعزيز بن محي الدين خوجه وزير الثّقافة السعودية، الذي افتتح المهرجان بصحبة السّفير الفلسطيني جمال عبداللطيف الشوبكي، والدكتور عبدالعزيز بن محمد السبيل، والأمير سعود بن مساعد، والأستاذ موسى أبو غربية الوكيل المساعد في وزارة الثّقافة الفلسطينيّة، وسفراء الأردن ومصر وتونس والمغرب وقطر ولبنان والسودان وإيرلندا والنّمسا وعدد من الدّبلوماسيين الآخرين، وجمهور كبير من الجالية الفلسطينية والمواطنين السّعوديين بينهم أكّاديميّون ومبدعون.
جرى حفل الافتتاح مساء الأحد15تشرين الثاني-اكتوبر- في قاعة المسرح الصّغير، حيث ألقى وزير الثّقافة السّعودية والسفير الفلسطيني كلمتين قصيرتين أكدا فيهما أنّ القدس حاضرة في وجدان كلّ مسلم وعربيّ.
أمّا قاعة المسرح الكبرى في مركز الملك فهد الثقافي فهي قاعة تتّسع لأكثر من ثلاثة الآف شخص، وهي كبقية المركز الثقافي مجهّزة بآخر ما ابتكر العلم الحديث من ديكورات وأثاث، ولا أخفي عليكم أن هذه القاعة قد شكّلت لي صدمة حضاريّة إيجابية، تفوق دهشتي عندما رأيت في صيف العام 1984 مسرح (البولشوي) الروسي الذي يعتبر أفضل مسرح عالميّ.
وكان للقصائد التي ألقاها الشّاعران الفلسطينيّ مازن دويكات والسّعودي عبدالله الزّيد عن القدس وفلسطين وقع لدى الحضور، أمّا فرقة أصايل الفلسطينيّة بقيادة الفنان المتميّز ناجي أبو شخيدم فقد ألهبت جمهور الحاضرين بروعة أدائها للرّقصات والدّبكات الشّعبيّة الفلسطينيّة، وكان مسك الختام مع الشّاعر الشعبي الفلسطينيّ الزّجّال موسى حافظ الذي سيطر على عاطفة ووجدان الحضور بأغانيه وأناشيده عن القدس وفلسطين وما يجري فيها.
في اليوم الثّاني الاثنين كان النّشاط النّسوي في قاعة المسرح الكبرى، وبحضور نسائيّ فقط من الجالية الفلسطينيّة ومواطنات سعوديّات وعربيّات، وكان الحضور النّسويّ مكثفا ممّا استدعى فتح هذه القاعة، وقد افتتحت المهرجان النّسويّ إحدى الأميرات السّعوديّات، وألقت الشّاعرة والرّوائيّة الأديبة وداد البرغوثي عددا من القصائد، كما تواصلت في لقاءات عديدة على طيلة أيّام المهرجان مع مبدعات وأكاديميّات سعوديّات.
أمّا أعضاء الوفد الفلسطيني فقد كانوا ضيوفا على الدّكتور عبدالعزيز السبيّل وكيل وزارة الثّقافة السّعوديّة، وبصحبته عدد من كبار موظّفي الوزارة، وعدد من الأكاديميّين والمبدعين السّعوديّين في المبني التّراثيّ السّعوديّ في العاذريّة، حيث كانت فرقة الفنون الشّعبيّة التابعة لوزارة الثّقافة السّعوديّة تتواجد تلك الليلة، فقدمت رقصة (العرضة) السّعوديّة الشّهيرة، وهي رقصة حماسيّة تراثيّة يرقصها السّعوديّون بالسّيوف، عندما تدقّ طبول الحرب، كما قدّمت الفرقة رقصة السّيف والعزاويّ المعروفة في منطقة جيزان في جنوب السّعوديّة.
وعلمنا أنّ هذه الفرقة التي جابت العالم حاملة التّراث الشّعبيّ السّعوديّ لها مثيلات في مختلف منطاق المملكة وترعاها وزارة الثّقافة السّعوديّة فغبطناهم على ذلك.
كما قدّمت الفرقة السّامر الدّوسري السّعوديّ، وقدّم أحد افرادها عزفا على الرّبابة، وآخر قدم عزفا على العود، وأعقب الحفل عشاء متنوّع الأطعمة الشّعبيّة وغيرها، وجرت على طاولاتها أحاديث عن القدس وفلسطين، حقا لقد كانت ليلة تأسر القلوب. وفي يوم الثلاثاء زار الوفد جامعة الملك سعود في الرياض، هذه الجامعة التي تشكل بأبنيتها الحديثة والجميلة مدينة صغيرة قائمة بذاتها، والتقى الوفد عميد كليّة اللغة العربيّة الدّكتور صالح الغامدي، هذا الانسان الرائع الذي استضاف الوفد في قاعة، وبحضور عدد من المدرّسين في القسم، ومنهم الدّكتور حسين المناصرة ابن بني نعيم قرب الخليل.
وتحدّث رئيس الوفد الفلسطيني موسى أبو غربية، وجميل السلحوت ومازن دويكات وموسى الحافظ عن القدس وفلسطين، وكان عدد من الأكاديميّات السّعوديّات في قاعة أخرى يستمعن الى ما يجري عبر دائرة صوتيّة، وجرى بعد ذلك حوار شارك فيه الحضور والحاضرات، كما تجوّل الوفد في مكتبة الجامعة التي تحوي حوالي مليونين ونصف المليون كتاب ومخطوطة، وفيها قسم لترميم المخطوطات.
في المساء كانت الحفلة السّاهرة في المسرح الصّغير في مركز الملك فهد الثّقافيّ، وبحضور الدّكتور عبدالعزيز السبيّل، والسّفير جمال الشّوبكي اللذين حضرا جميع النّشاطات، وكان الشّعر مع مازن دويكات والزجل مع موسى حافظ، والرّقصات الشعبية مع فرقة أصايل وهكذا كان حفلة مساء الاربعاء .
مساء يوم الاربعاء أيضا وفي النادي الأدبي الذي لفت انتباهنا بجمال مقرّه واتّساعه وجمال حديقته أيضا، تحدّث الاستاذ موسى ابو غربية رئيس الوفد الفلسطيني، وجميل السلحوت عن تهويد مدينة القدس الذي يتمّ بشكل متسارع، وحضر الأمسية إضافة إلى الدكتور عبدالعزيز السبيّل وكبار موظّفي الوزارة والسّفير جمال الشوبكي إدارة النّادي وعدد من الأكّاديميّين السّعوديّين والفلسطينيّين. ويوم الخميس زار الوفد المتحف الوطنيّ السّعوديّ، هذا المتحف المقام بجوار الدّار التي كان يسكنها مؤسّس المملكة الرّاحل الملك عبدالعزيز آل سعود، وأصبحت جزءا من المتحف، وهو متحف بأبنية مصمّمة حسب طراز المتاحف العالميّة، ويحوي موجودات سعوديّة من العصر الجاهليّ حتّى أيّامنا هذه، كما فيه جناح خاصّ يروي قصّة ومراحل قيام المملكة العربيّة السّعوديّة منذ قرون طويلة، ويروي تاريخ الإمام محمد بن سعود الذي أعدمه العثمانيون عام 1816م، وقصّة توحيد الملك عبدالعزيز للسّعوديّة وبناء المملكة تحت سيطرته بشكلها الحاليّ، وليتوالى أبناؤه من بعده على ملكها.
وفي المساء كان الحفل في السّفارة الفلسطينيّة حيث قدمت فرقة أصايل والشّاعر الشّعبيّ موسى الحافظ لوحات فنّيّة رائعة.
وقد استجاب وزير الثّقافة السّعوديّة الدّكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة إلى طلب الوفد بأن يؤدّي خمسة من أعضائه مناسك الحج – برغم ضيق الوقت فالعيد على الأبواب- وتابع الوكيل الدّكتور السبيل هذه القضيّة الى أن أخرجها إلى حيّز التّنفيذ.
ولن ننسى مشاركة الدكتور ماهر الكركي المستشار الأوّل للسّفير الأردنيّ، والذي كان حضوره مميزا في كافة القضايا البارزة، إضافة إلى بقية موظفي السفارة الذين لم أتشرّف بمعرفتهم.
الزّي الشّعبيّ
يفرض المناخ على الشّعوب أن تختار ملابسها التي تتلاءم مع طبيعة البلاد وثقافة شعوبها، وقد فرض المناخ الصّحراوي على شعوب الجزيرة العربيّة عامّة، والشّعب السّعوديّ خاصّة ارتداء الثّوب (الدشداشة) البيضاء، وهذا ما يرتديه غالبية الذّكور من الشّعب السّعوديّ أطفالا وشبابا وشيوخا، ومن اللافت أنّ هذا الزيّ الشّعبي التقليديّ يكسر الفوارق الطبقيّة والاجتماعيّة بين أبناء الشعب، فيرتديه الأمير والفقير وما بينهما، ولا يستطيع الزّائر أن يميّز بين المسؤول والرّعيّة إلا من خلال الهيبة والوقار.
المرأة السعودية
مع أنّنا عرب جميعنا إلا أنّ هناك تفاوتا في العادات والتّقاليد تختلف من شعب إلى آخر حسب الظروف المحلّيّة والبيئة في كلّ قطر عربيّ. وممّا يلفت الانتباه أنّ النّساء السّعوديّات في غالبيتهن يرتدين العباءة السّوداء و(الملاية) التي تغطّي الرأس والوجه بالكامل، أو تكون بعض النّساء منهن منقّبات لا تظهر منهنّ إلا العيون، لكن المرأة السّعودية نالت حظّها من التّعليم أيضا، وفي مختلف التّخصّصات، ولهفتها لمواكبة العصر واضحة، فقد كان الحضور النّسويّ في الليلة الثّانية لأيّام فلسطين الثّقافيّة المخصّصة للنّساء لافتا ومتفوّقا على عدد الرّجال في الأمسيات الأخرى، ممّا اضطر مشرفي المهرجان إلى فتح قاعة المسرح الكبرى في مركز الملك فهد الثقافيّ.
ولاحقا دوّنت مشاهداتي وملاحظاتي، وصدرت في كتابين هما:
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
وبعد صدور الكتابين زرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة أكثر من مرّة، وشاهدت واطّلعت على أشياء جديدة فيها، كما زرت الجزائر ضمن وفد فلسطينيّ ثقافيّ. ومن مشاهداتي في الجزائر:
في الجزائر بلد الشّهداء
من الأيّام التي شعرت فيها بكرامتي وإنسانيّتي هي مشاركتي في أسبوع فلسطين الثّقافيّ في مدينة قسنطينة الجزائريّة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015م، وبما أنّ الجزائر رئيسا وحكومة وشعبا تعتبر فلسطين قضيّتها الأولى قولا وفعلا وثقافة وانتماء، فقد ارتأت أن تبدأ احتفالاتها بأسبوع فلسطين الثّقافيّ، والعربيّ الذي يزور الجزائر سيشعر وسيرى بأمّ عينيه ما معنى أن يكون عربيّا في قطر عربيّ اسمه الجزائر.
في الطّريق
صباح السّبت 25 نيسان- إبريل- شاهدنا حسن التّرتيب والنّظام والمعاملة الحسنة في مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنية عمّان….استقلينا طائرة شركة الخطوط الجوّية التّركيّة إلى إستانبول التي وصلناها في حدود العاشرة صباحا، وما أن هبطت الطائرة مطار إستانبول الدّوليّ حتى أخبرنا قائد الطّائرة أنّ هناك خللا في كهرباء الطائرة، وهذا سيعرقل فتح باب الطّائرة…لكنّه ما لبث أن فتح بطريقة يدوية فتنفسنا الصّعداء، ونحن لا نعلم إن كان ذلك الخلل قد حصل أثناء تحليق الطّائرة في الجوّ أم أثناء سيرها على مدرج المطار!
بعد انتظار حتى الرّابعة من بعد الظّهر صعدنا إلى الطائرة التّركيّة التي ستقلّنا إلى مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة، على أمل الوصول إليه في السّادسة مساء حسب توقيت الجزائر الذي يتأخّر عن توقيت القدس ساعتين، وبقينا داخل الطّائرة التّركية من الرّابعة حتى الثّامنة والنّصف وهي رابضة في مطار استانبول بحجة اصطدام سيّارة باحدى طائرات شركة الطّيران التّركيّة على مدرّج المطار في اليوم السّابق، وهذا أخّر وصولنا الجزائر حتّى الحادية عشرة ليلا بتوقيت الجزائر العاصمة، حيث وجدنا في استقبالنا عددا من طاقم سفارة فلسطين في الجزائر، الذين أجلسونا في إحدى غرف الاستقبال نحتسي القهوة والعصائر حتى الانتهاء من اجراءات المطار. انتقلنا بعدها في حافلة سياحيّة إلى فندق “السّلطان” في العاصمة الجزائريّة، وهو فندق في بناية قديمة لا يوحي منظره الخارجيّ بفخامة الدّيكورات والأثاث الذي في داخله، وهناك نمنا ليلتنا بعد أن تناولنا وجبات عشائنا كلّ في غرفته.
صباح اليوم التّالي- الأحد- غادرنا في حافلة سياحيّة إلى مدينة قسنطينة التي تبعد عن الجزائر العاصمة حوالي 420 كيلومتر، وكان بصحبتنا شابّ من وزارة الثّقافة الجزائريّة اسمه محمد، وهو شابّ دمث طيّب الأخلاق. وأخذنا ننحدر في سلسلة جبال أطلس الشّرقيّة في شوارع عريضة ذات اتجاهين…كلّ اتّجاه من ثلاثة مسارب، وهي سلسلة جبال طويلة ومرتفعة جدّا وتمتد لآلاف الكيلومترات….وتعلو قممها الثّلوج، في حين تغطّي منحدراتها الغابات الكثيفة بما فيها أشجار الزّيتون…مررنا خلالها بثلاثة أنفاق اثنان منها يزيد طول الواحد منها عن كيلو متر. وعندما وصلنا منطقة سهليّة عظيمة بدت من بعيد على يميننا سلسلة جبال وهران، بينما استمرت سلسلة جبال أطلس الشّرقيّة على يسارنا، ومن المعلوم أنّ مساحة الجزائر حوالي مليونين وثلاثمائة واثنين وثمانين ألف كيلو متر. لكنّ اللافت أنّ المنطقة التي قطعناها جميعها خضراء وهي دائمة الاخضرار كما أفادنا الأهالي…وهناك سيول ماء في الأودية يبدو أنّها تتغذّى من الثّلوج التي تذوب على قمم الجبال.
مررنا بمئات القرى الجزائريّة… ولفت انتباهنا أنّها مبنيّة على طراز الفنّ المعماريّ الأوروبيّ…ولم أشاهد أيّ بناء حجريّ كما في بلادنا، وغالبيّة الأبنية مقامة من الطّوب الأحمر الجميل، وكثير من أسطح المنازل من القرميد الأحمر اللافت.
قسنطينة عاصمة الثقافة العربيّة للعام 2015م
” مدينة قسنطينة (بالفرنسية :Constantina، وتسمّى مدينة الجسور وعاصمة الشّرق الجزائريّ، وتعتبر من كبريات مدن الجزائر تعدادا. تتميز المدينة القديمة بكونها مبنيّة على صخرة من الكلس القاسي، ممّا أعطاها منظرا فريدا يستحيل أن يوجد مثله عبر العالم في أيّ مدينة.و للعبور من ضفة إلى أخرى شُيّد عبر العصور عدّة جسور، فأصبحت قسنطينة تضمّ العديد منها، بعضها تحطم لانعدام التّرميم، وبعضها ما زال يصارع الزّمن، لذا سمّيت قسنطينة مدينة الجسور المعلّقة. يمرّ وادي الرّمال على مدينة قسنطينة القديمة وتعلوه الجسور على ارتفاعات تفوق 200 متر.
وقعتِ المدينة بعدها تحت سلطة الرّومان. وأثناء العهد البيزنطيّ تمرّدت سنة 311م. على السّلطة المركزيّة؛ فاجتاحتها القوّات الرّومانيّة من جديد، وأمر الإمبراطور ماكسينوس بتخريبها، وتمّ إعادة بنائها في عهد قسنطينين.
أعاد الإمبراطور قسطنطين بناءها عام 313 م. واتّخذت اسمه وصارت تسمّى القسطنطينة أو قسنطينة. عرفت ابتداء من سنة 429 م غزوات الوندال، ثم استعاد البيزنطيّون السّيطرة عليها.
مع دخول المسلمين إلى شمال أفريقيا عرفت المدينة نوعا من الاستقلال، فكان أهلها يتولّون شؤونهم بأنفسهم، وحتّى القرن التاسع. وفي القرن الثّاني عشر الميلاديّ عرفت المنطقة قدوم القبائل الهلاليّة.”
عادت المدينة للأمازيغ عن طريق الإمارات الأمازيغيّة الإسلاميّة، ومنها الزيريّين ثم الحمّاديّين و الموحّدين، وبعد سقوط الأندلس استوطن المدينة الأندلسيّون كباقي مناطق شمال أفريقيا، كما استقرّت بها جالية يهوديّة، وتعامل معهم أهل المدينة بالتّسامح.
قسنطينة مدينة الجسور:
تتميّز مدينة قسنطينة الجزائرية او “سيرتا” وهو الاسم القديم لها، عن جميع المدن العربيّة جغرافيّا ومعماريّا، كونها مدينة الجسور المعلّقة، ويمكن القول أنّها تستحقّ بجدارة لقب عاصمة الشّرق الجزائريّ.
حضارة وثقافة:
أهالي قسنطينة محبّون للثّقافة، لذا فإنّ هناك عدّة قصور ومسارح ودور عرض للثّقافة في المدينة، أقيم في إحداها أسبوع الثّقافة الفلسطينيّة ما بين 27 نيسان- ابريل- و2 أيار-مايو- 2015م على هامش احتفالات المدينة بكونها عاصمة للثّقافة العربيّة للعام 2015م، حيث كانت أمسيات شعريّة شارك فيها كلّ من الشّعراء الفلسطينيّين: مراد السّوداني رئيس اتحاد الكتّاب الفلسطينيّين، سميح محسن ونصّوح بدران، كما قدّم الزّجال الشّابّ عبدالله غانم أكثر من أمسية زجليّة. وكانت هناك محاضرات ثقافيّة حيث قدّم الأديب وليد أبو بكر محاضرة عن الفنّ الرّوائي عند الشّباب الفلسطينيّين، وقرأ القاصّ الفلسطيني المقيم في تونس توفيق فيّاض إحدى قصصه. وقدّم أسعد القادري رئيس جمعيّة الصدّاقة الفلسطينيّة الجزائريّة محاضرة عن العلاقة الأخويّة الحميمة بين الشّعبين الجزائريّ والفلسطينيّ، في حين قدّمت الروائيّة المقدسيّة ديمة السّمان محاضرة عن وضع التّعليم في مدارس القدس العربيّة المحتلّة، وحاضر جميل السّلحوت حول الصّراع الثقافي في القدس الشّريف والتّهويد الذي تتعرض له المدينة، وتحدّث موسى أبو غربيّة عن “القدس عاصمة دائمة للثّقافة العربيّة”. كما حاضر الدكتور فيصل غنادرة عن المقارنة بين الرّواية الفلسطينيّة والجزائريّة
وقدّمت فرقة “أوف المقدسيّة للرّقص الشّعبيّ” أمسيتين واحدة في قسنطينة وأخرى في الجزائر العاصمة، تجلّى فيها زهرات وأشبال الفرقة في عروضهم التي سحرت جمهور الحاضرين، ولاقت قبولا وإقبالا منقطعي النّظير.
وكان رئيس الوفد الثقافيّ الشّاعر عبد السّلام العطاريّ، المعروف بدماثته وخفّة دمه زمبرك الحراك في هذا الأسبوع الثّقافيّ. في حين تابع الاعلاميّ أحمد زكارنة نشر الفعاليّات في وسائل الاعلام.
أمّا الرّسام سميح أبو زاكية فقد أضفى على الأسبوع الثقافيّ رونقا ونشاطا واستقطابا فريدا.
الفنّان أحمد الدّاري:
فنّان مطبوع ينحدر من قرية العيسويّة المقدسيّة، ولد في الكويت، ويعيش الآن في باريس، وهو من كوادر وزارة الخارجيّة الفلسطينيّة، قدّم عدّة أغانيات وعزفا على العود أكثر من مرّة. وقد كان لافتا بخفّة دمه، ودماثة خلقه وسعة ثقافته وهدوئه. ذكّرته بحلف الأوديّة”الواديّة القبليّ” الذي يجمع قرى السّواحرة، سلوان، الطّور، العيزريّة، أبو ديس والعيسويّة” فضحك ملء شدقيه على ذلك.
في جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ:
بترتيب من الأخ منصور المغربي مندوب سفارة فلسطين في قسنطينة، وبرفقة الأخت أمّ خليل زوجة الدّكتور لؤي عيسى سفير فلسطين في الجزائر، رتّب الدّكتور عبدالله بو خلخال رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائري المسكون بحبّ فلسطين وشعبها. لقاء مع الرّوائيّة ديمة السّمان وجميل السلحوت حيث حاضرا عن التّعليم والصّراع الثّقافي في القدس.
الأوركسترا:
مساء الخميس 30 نيسان دعينا لحضور حفل أوركسترا في دار الأوركسترا في قسنطينة، حفل موسيقي وغنائيّ غاية في الابداع، شارك فيه مئات الموسيقيّين وفرقة الكورال وفرقة النّشيد في الحرس الرّئاسيّ، وقدّموا رائعة “الوئام والسّلام” بقيادة المايسترو أمين قويدر، وقدّمت فيه الفنّانة الجزائريّة صاحبة الصّوت الشّجيّ ندى الرّيحان أغنية وطنيّة.
الأخوّة الجزائريّة الفلسطينيّة:
الشّعب الجزائريّ بأعراقه كافة، بعربه وبأمازيجه مجبول على حبّ فلسطين وشعبها، والحكومة الجزائرية تساعد فلسطين، ولم تحاول يوما التدخّل في الشّأن الفلسطينيّ الدّاخلي، وهم يستشهدون بمقولة الرّئيس الرّاحل هوّاري بومدين ” نحن مع فلسطين مظلومة أو ظالمة” و” استقلال الجزائر منقوص ما دامت فلسطين محتلة” وغيرها. وممّا يتميّز به الشّعب الجزائريّ هو قول الأفراد العاديّين عندما يرحّبون بأيّ فلسطين” أنت جزائريّ وأنا فلسطيني” فلله درّك يا شعب المليون ونصف المليون شهيد.
بيت لكلّ أسرة:
ومن الأمور اللافتة تلك الأبنية متعدّدة الطّوابق والممتدّة أفقيا على مساحات واسعة، وفي أكثر من مكان، فكانت الإجابة عن استفسارنا حولها بأنّها مشاريع اسكانيّة تبنيها الدّولة، وتوزّع الشّقق مجانا على الأسر الجزائريّة، لأن من حقّ كلّ جزائريّ أن يكون له بيت مستقل.ّ
الماجدات الجزائريّات:
للمرأة الجزائريّة حقوق تفوق مثيلاتها في الدّول العربيّة والاسلاميّة، وقد حفظ لها القانون الجزائريّ تلك الحقوق، ونسبة الجزائريّات المتعلّمات والعاملات مرتفعة جدّا، ومن الّلافت أنّ الغالبيّة العظمى من النّساء الجزائريّات يرتدين الّلباس الشرعيّ أو بالأحرى يرتدين الحجاب، وبعضهنّ منقّبات أيضا…وظاهرة الحجاب والنّقاب انتشرت في الجزائر منذ تسعينات القرن العشرين كما أفادنا بعض المواطنين. وعندما سألت أحد الصّحفيّين عن الحجاب بقولي:
هل حجاب المرأة في الجزائر عبادة أم عادة أم خوف من التّيارات الدّينيّة؟
أجابني ضاحكا: كلّها مشتركة!
العشريّة الظلماء:
يتحدّث الجزائريّون بمرارة عن المرحلة السّوداء التي أشعل فيها المتأسلمون الجدد خلالها نار الفتنة في الجزائر ما بين الأعوام 1992 و2002 والتي حصدت أرواح ما يزيد على مائتي ألف جزائري، عدا عن مئات آلاف الجرحى، وعن الدّمار الذي ألحقوه بالبلاد ومؤسّساتها واقتصادها، ويصفونها “بالعشريّة الظلماء” أو السّوداء أو المعتمة.
النّشيد الوطني
أشقّاؤنا الجزائريّون فخورون بتاريخهم وبانتمائهم القوميّ والدّيني، لذا فإنّ عمليّة “فرنسة” الجزائر ومحاولة الاستعمار الفرنسي فرض لغته وثقافته عليهم قد ذرتها رياح الثّورة العاتية، وبعد استقلال الجزائر أصبحت اللغة العربيّة لغة البلاد الرّسميّة، فقاموا بتعريب كلّ شيء في الجزائر، والجزائريّون شديدو الفخر برموزهم الثّقافية والتّاريخيّة والوطنيّة، لذا لا غرابة أن تجد أسماء المؤّسّسات والشّوارع تحمل أسماء شهداء الجزائر في حرب التّحرير وغيرها، وأن تجد جامعة في قسنطينة تحمل اسم المجاهد الأمير عبد القادر الجزائريّ. ولاغرابة أيضا أن يتصدّر النشيد الوطنيّ الجزائريّ احتفالات نشاطات المؤسّسات على اختلافها.
وفي أسبوع فلسطين الثّقافيّ على هامش احتفالات “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015 كانوا يقدّمون النّشيد الوطنيّ الفلسطينيّ على مثيله الجزائريّ، ويستمرّ عزفه حوالي ستّ دقائق:
وعندما سألناهم عن أسباب تقديم النّشيد الوطنيّ، وليس السّلام الوطني اختصارا للوقت! أجابونا بأنّ النّشيد الوطني رمز مقدّس لا يجوز التّهاون في بثّه.
ديمة وآسيا وأمّ خليل
أديبتنا الرّوائيّة المتميّزة ديمة جمعة السّمان هي السّيدة الوحيدة التي كانت ضمن وفد الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة الثّقافيّ، وكان هناك عدد من الزّهرات العضوات في فرقة “أوف” المقدسيّة، وحضرت السّيدة آسيا الرّيان من هولندا، وهي فلسطينيّة تنحدر أصولها من منطقة حيفا، تعمل في مجال الاعلام والصّحافة والإخراج السّينمائيّ، أصيبت بوعكة صحيّة منعتها من تقديم موضوعها حول السّينما الفلسطينيّة، وهي سيدّة مثقّفة تعي قضيّتها جيّدا، تنناقشنا وتحاورنا وإيّاها أكثر من مرّة، وسعدنا بلقائها. ولا ننسى هنا أيضا دور السّيدة أمّ خليل زوجة سفيرنا في الجزائر، والتي شاركت الوفد في فعاليّات الأسبوع الثّقافيّ كاملة، فهي سيّدة فاضلة مثقّفة وفاعلة بهدوء أيضا.
أمّا زميلتنا الرّوائيّة ديمة جمعة السّمان، فقد كانت نجم الأسبوع الثّقافيّ بدون منازع، فبعد أن قدّمت محاضرتها حول التّعليم في مدارس القدس العربيّة في قصر الثّقافة في قسنطينة، وفي جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ، لفتت أنظار رجال الفكر والأكاديميّين ومراسلي وسائل الاعلام بغزارة معلوماتها وقوّة شخصيّتها، وجمهور الحضور، فتسابقوا على مصافحتها والحديث وإجراء المقابلات معها. وقد وصفها هي وجميل السلحوت الدّكتور عبدالله بو خلخال رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ بأنّهما يحملان رائحة القدس، وعرض الدّكتور أبو خلخال عليها وعلى جميل السّلحوت ترتيب لقاءات لهما؛ لإلقاء محاضرات عن القدس ومدارسها وصراعها ومعاناتها مع الاحتلال في مختلف الجامعات الجزائريّة.
الدّكتور عبدالله بو خلخال
هذا الرّجل الذي يشغل منصب رئيس جامعة الأمير عبد القادر الجزائري، مجاهد يتحلّى بتواضع العلماء، يحمل هموم فلسطين وشعبها، ويمنّي النّفس بالصّلاة في المسجد الأقصى محرّرا من الأسر، استقبلني والأديبة السّمان صحبة زميله في الدّراسة الأستاذ منصور المغربي مندوب سفارة فلسطين في قسنطينة، والسّيدة أمّ خليل زوجة السّفير الفلسطينيّ، والأخ علي الشّامي بالأحضان، واصطحبنا بجولة في أقسام الجامعة، وقدّم لي وللأخت ديمة السّمان شهادة مشاركة تقديريّة من الجامعة ممهورة بخاتم الجامعة وتوقيعه.
فنّ وفنّانون فلسطينيّون في الجزائر
في قسنطينة التقينا الفنّان النّحات زكي حسن؟ وهو فنّان يعود أصله إلى قرية الطنطورة قرب حيفا التي تعرّضت لمذبحة في نكبة الشّعب الفلسطينيّ الأولى عام 1948، وهو مولود في مخيّم اليرموك قرب العاصمة السّوريّة دمشق، ويعيش الآن في الجزائر، بعد أن فقد كلّ ما يملك في المخيّم بما في ذلك منحوتاته الشّهيرة والعالميّة، وقد كان ضمن الوفد الفلسطينيّ الثقافيّ في تظاهرة “قسنطينة عاصمة الثقافة العربيّة” في الجزائر. وخصّص له جناح في قصر الثّقافة في قسنطينة المدينة التّاريخيّة. والرّجل صاحب الابتسامة الدّائمة واللافتة هادئ بطبعه، منحوتاته لها دلالات عميقة عمق انتماء الرّجل لقضيّته ولشعبه ولأمّته، لاقت اقبالا كبيرا من جمهور من ارتادوا القصر الثّقافيّ، والرّجل يتكلّم بألمٍ شديد عن منحوتاته وعن بيته في مخيّم اليرموك، وكيف استولى “المتأسلمون الجدد” على بيته واتّخذوه مقرّا لهم بعد أن دمّروا المنحوتات التي أمضى سنوات في نحتها، وها هو يبدأ حياته من جديد في الجزائر العظيم.
أمّا الرّسام سميح أبو زاكية وهو من الخليل، فقد أضفى على أسبوعنا الثّقافيّ جمالا وحركة فقد استقطب آلاف الأطفال والأمّهات الجزائريّات والشّباب والمهتمّين بالفنون، وقد كان تفاعل الأطفال معه رائع ولافت، خصوصا تلك الطفلة المسمّاة”غزّة” والتي أطلق والداها عليها هذا الأسم؛ لأنها ولدت أثناء العدوان على قطاع غزّة في العام 2008.
لكنّ فاكهة البرنامج الفنّيّ تمثّلت بالرّائع أحمد داري ابن قرية العيسويّة المقدسيّة المولود في الكويت والمقيم في باريس، وهو هادئ بطبعه وذو ثقافة واسعة، عزف على العود رفقة الأمسية الشّعريّة التي قدّمها شعراؤنا الجميلون مراد السّوداني، سميح محسن ونصّوح بدران. كما عزف على العود وغنّى أكثر من مرّة وفي أكثر من موقع، فأسعد من شاهدوه ومن سمعوه.
أمّا الزّجال الشّعبيّ عبد الله غانم من منطقة جنين، وهو شابّ نبيل هادئ، يتحلّى بأخلاق القرية، ويجيد ارتجال الزّجل الشعبي وأغاني “الميجنا والعتابا” وغيرها، وكانت له أمسية جميله شاركه فيها الفنان أحمد داري، وأدخل الفرحة في قلوب من استمعوا إليه.
وتألّقت فرقة” أوف” المقدسيّة للرّقص والدّبكة الشّعبيّة، واستقطبت جمهور الحاضرين في أمسيتين واحدة في قسنطينة، والثّانية في الجزائر العاصمة. وألهبت القاعتين اللتين ضجّتا بالتّصفيق، وسط زغاريد أخواتنا الماجدات الجزائريّات.
في أمريكا مرّة أخرى
زرت أمريكا منذ العام 1984م أكثر من خمس وعشرين مرّة؛ لزيارة إخوتي وأسرهم، وأختي فاطمة فيها، وبعدها ومنذ العام 2001 وجود ابني قيس أيضا فيها، وقد كتبت عن مشاهداتي في أمريكا كتابا أسميته “في بلاد العمّ سام”صدر عام 2016 عن مكتبة كلّ شيء في حيفا، وفي زياراتي اللاحقة بعد صدور الكتاب، شاهدت أشياء جديدة لفتت انتباهي، وهذا بعض ما كتبته عنها:
من غرائب أمريكا Amish
في أواخر نوفمبر 2016، وبينما أنا وشقيقي راتب نجلس في مزرعة الدّجاج التي يملكها، دخلت حسناء ترتدي ملابس كما الرّاهبات، وتنتعل حذاء “جزمة” لافتة تصل حتّى ركبتيها، فقد أتته تلك السّيدة بشحنة من الدّجاج البلديّ، لفتت انتباهي بأدبها الجمّ، وحيائها الذي لا يخفى على أحد، فاستفسرت عنها وإذا بها من جماعة دينيّة تدعى “أميش” ولم أعلم من أين أتت هذه التّسمية- رغم استفساراتي الكثيرة- لكنّهم جماعة دينيّة مسيحيّة مختلفة، فعرضت على شقيقي راتب أن نزورهم في مكان سكناهم؛ لنراهم على الطّبيعة كما هم.
رتّب راتب الزّيارة هاتفيّا مع زوج المرأة، فذهبنا مجموعة مكوّنة منّي ومن كلّ من: شقيقيّ راتب وداود، ابني قيس، محمد سلامة البدوي، أبو نايف غزاونة وعفيف الياسيني.
تبعد “مضارب” جماعة ” Amish”أميش عن شيكاغو حوالي ثلاثمائة كيلومتر، وتقع في ولاية انديانا المجاورة، وصلناهم بعد سياقة ثلاث ساعات في الطريق السّريعة، كلّ واحد منهم يسكن بيتا في أرضه الزّراعيّة، لذا فإنّ بيوت قريتهم متباعدة ومنعزلة عن بعضها البعض، وقد تصل المسافة بين بيت وآخر إلى مئات الأمتار، وأحيانا تزيد على الكيلومتر.
استقبلنا الرّجل وزوجته الشّابّة بترحاب زائد، وسألت الزّوجة فور وصولنا:
ماذا تريدون أن أعدّ لكم لوجبة الغداء؟
أجابها راتب: لا شيء، شكرا لك، والتفت إلى زوجها وسأله:
هل أحضرت خروفا لنا كما اتّفقنا؟ فأجاب الرّجل بالإيجاب.
قام راتب بذبح الخروف وسلخه وقطّعه تمهيدا لشوائه على الخشب، في حين قمت باستطلاع المكان، البيت كما بقيّة البيوت الأمريكيّة في الرّيف، وفي محيطه “براكس” مخصّص لتربية طيور الإوزّ، وبجانبة بركة ماء عادية محفورة في التّراب لاستعمال الإوزّ فقط. وهناك حظيرة لتربية الخيول القزمة”النّغل” فيها ثلاثة رؤوس “ذكر وأنثيان”. سألنا الرّجل عن الحكمة من تربيتها فقال:
“كي يلعب عليها أطفالي!”
وهناك حظيرة أخرى يستعملونها لتربية الخيول، التي يستعملونها للحراثة، وجرّ العربات. بينما يوجد “براكس” تحيط به قطعة أرض لتربية الدّجاج، العلف المقدّم للطيور ذرة صفراء مجروشة فقط.
وهناك “براكس” آخر لتربية الخنازير. بينما توجد في الأرض منحلة، تعتاش على رحيق الزّهور والأشجار.
عند مدخل أرض الرّجل هناك غرفة صغيرة فيها هاتف، لا يستعمل إلا في الضّرورة القصوى والحالات الطّارئة، الرّجل لديه هاتف محمول لا يستعمل إلا للعمل فقط.
الأسرة ومن ضمن معتقداتهم لا يستعملون الكهرباء مع أنّ خطوطها تمرّ من قريتهم، يحتاجون الكهرباء لتكييف “البراكسات” للطيور والحيوانات التي يربّونها، فيستعملون “موتورات” توليد، في بيت الأسرة ثلاجة تعمل على كهرباء الموتور، لكن البيت لا يضاء بالكهرباء، ويستعينون بمصابيح تعمل على الطّاقة الشّمسيّة.
لا يستعملون التّلفاز أو المذياع، ولا يقرأون الصّحف، منعزلون كلّيا عن العالم، ولا يهمّهم ما يجري فيه. عندما سألناهم عن سبب عدم وجود تلفاز أو مذياع عندهم قال الزّوج:
لا نقتنيها كي لا تفسد أخلاق الأطفال!
و”أميش” مجموعة دينيّة بروتستنتيّة تأسّست في نهاية القرن السّادس عشر في سويسرا، ويبلغ تعدادها في أمريكا هذه الأيّام ثلاثماية وثمانية ألف شخص، وتعود أصولهم إلى مهاجرين أوروبّيّين غالبيّتهم من ألمانيا وسويسرا، وهم جماعة مسالمون لا يؤذون أحدا، ولا يكرهون أحدا. ومن معتقداتهم ” أنّ الكبرياء والتّعالي لله فقط، وعلى البشر أن يتواضعوا، وهم منقسمون في بعض معتقداتهم إلى حوالي عشر مجموعات، فهناك مجموعة واحدة منهم تؤمن باستعمال”التراكتور ” في الحراثة، وثلاث مجموعات تسمح باستعمال ماكنات تصنيع الحليب والغاز للطبيخ، بينما الآخرون يطبخون على نار الموقد، لكنّهم يجمعون على عدم إضاءة البيوت بالكهرباء، بل هناك مجموعتان منهما ترفضان إضاءة البيوت بالمصابيح الشّمسيّة.
ولا يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى المدارس بعد الصّفّ الثّامن، فثمانية صفوف تكفي، وبعدها قد تكون المدارس والتّعليم مفسدة- حسب معتقدهم-!
وهم يزوّجون بناتهم وأبناءهم في سنّ الثمانية عشرة، ولا يجوز قبل ذلك، لذا فإنّ الزّوجين يكونان في نفس العمر، ولا يتزوّجون من غيرهم. يتعارف العروسان لمدّة عامين بوجود والدي كلّ منهما، فإن توافقا وقبل كلّ منهما بالآخر تزوّجا، وإلّا فلا، ولا يكرهون أبناءهم وبناتهم على الزّواج، ومن الملاحظ أنّ رجالهم يحلقون الشّوارب ويطلقون اللحى المشذّبة.
ويطلق على “أميش” ” Anabaptist”أنابابتست” وتعني حسب “قاموس المعاني: “قائل بتجديد العماد، ومنكر وجوب تعميد الأطفال”.
وهم يعتاشون على تربية بعض الطّيور وبعض الحيوانات، ويملكون أراضي شاسعة، يزرعونها ذرة وفول الصّويا، ومن اللافت وجود عنابر ضخمة لتخزين الحبوب بجانب عدد من البيوت، في حين توجد مجموعة عنابر تتّسع لآلاف الأطنان تملكها شركة، ويبدو أنّها تشتري الحبوب من المزارعين.
والأهالي يزرعون أرضهم بالحراثة على الدّواب.
لمضيفينا ثلاثة أبناء وبنتان، أربعة منهم في المدرسة. لديهم موقد بجانب بيتهم، وهو عبارة عن حفرة دائريّة صغيرة، قطرها حوالي متر، منصوب بجانبها قضيب حديديّ قويّ، تمتدّ منه شبكة قابلة للرّفع والتّنزيل فوق النّار.
عندما عاد أطفالهم من المدرسة، تربّعت الطفلتان على الأرض فوق الأعشاب، شاركونا الطّعام بدعوة منّا، رفضت الطفلتان أن نضع لكلّ واحدة في صحنها بعض الشّواء، بينما قبلتاه من يدي والدتهما التي كانت تفتّته لهما قطعا صغيرة كما الأطفال المفطومين حديثا. أخبرنا الزّوجان أنّهما يأكلان لحم الخراف للمرّة الأولى، وأنّ أكثر اللحوم التي يأكلونها هي لحوم الخنزير والبقر.
ومن عاداتهم أنّ نساءهم لا يستعملن أيّا من أدوات التّجميل أو العطور، ولا يتبرّجن، والحوامل منهنّ لا يراجعن الأطبّاء ولا ينجبن في المستشفيات، ويساعدهن على الولادة نساء مسنّات ذوات خبرة. وهم يحرّمون الخمور والسّجائر، ويحترمون الدّيانات والمعتقدات الأخرى. ولا يخدمون في الجيش أو قوى الأمن، وإذا ما فرضت الدّولة التّجنيد الاجباري، أو ما يسمّى “خدمة العلم” فإنّهم يخدمون في مؤّسسات مدنيّة عامّة كالمستشفيات والمدارس.
في بيت مضيفينا صالون واسع فيه عدد من “الكنبات” والكراسي، ولا توجد عندهم كنائس، وقال لنا الأب:” أنّهم يجتمعون كلّ يوم أحد في بيت واحد منهم ويؤدّون صلواتهم.
وقد لاحظنا أنّهم يكرمون ضيوفهم بطريقة لافتة، حتّى إنّ الرّجل تمنّع في استلام ثمن الخروف الذي ذبحناه، لولا اصرار شقيقي راتب على دفع ثمنه، علما أنّ الرّجل اشتراه من مكان آخر فهو لا يربّي الخراف.
وعند مضيفنا كانت فرصة للتّجوال في بعض جنبات القرية بواسطة “الحنطور” الذي تقوده الخيول، لأنّهم لا يستعملون السّيارات داخل قريتهم.
تشارلز الثّالث في مسرح شكسبير
مساء 25 نوفمبر 2016 شاهدنا أنا وزوجتي، ابني قيس وزوجته مروة، وابن عمّي محمد موسى وزوجته “جويس” وابنته أماندا العرض الأوّل لمسرحيّة “الملك تشارلز الثالث” على مسرح شكسبير في شيكاغو. يقع مسرح شكسبير على لسان بريّ يدخل بحيرة متشيغان اسمه نافي بيير “Navy Pier”، قبالة ناطحات السّحاب في مركز مدينة شيكاغو، وهذا اللسان يحوي العديد من المحلات التّجاريّة المتنوّعة، إضافة إلى عدد من المطاعم.
شكل المسرح:
لا يستطيع المرء رؤية بناء مستقلّ للمسرح من الخارج، فهو ضمن هذا اللسان البحري الذي يمتدّ داخل البحيرة لما يزيد على الكيلو متر، ويبدو البناء فيه كأنّه بناء واحد، ومن جهته الغربيّة هناك شارع عريض ذو التّجاهين، يصل حتّى نهاية اللسان، وعلى يمين الدّاخل إليه تقع مواقف متواصلة للسّيّارات، تحوي داخلها على مصاعد، ومداخل لهذا الصّرح المعماريّ اللافت.
والمسرح مكوّن من ثلاث طبقات، أمام كلّ واحد منها صالون”لوبي”، وفي “لوبي”الطّابق الأوّل هناك تمثال لشكسبير يظهر فيه رأسه وصدره.
يدخل المرء صالة العرض المكوّنة من طابقين، فيجد أمامه مسرحا بيضاويّ الشّكل، تمتدّ خشبة العرض في منتصفه، ويجلس الحضور على ثلاثة جوانب.
في المنتصف هناك ثمانية صفوف في كلّ صفّ منها ستّة عشر مقعدا، على جانبيها ممرّات إلى صالة العرض، ومنها وعلى اليمين واليسار خمسة صفوف في كلّ واحد منها أربعة عشر مقعدا، وفي الطبقة الثّانية”لوج” مكوّن من حوالي عشرين قوسا خشبيّا، بين كلّ واحد منها والآخر يجلس ثمانية أشخاص، كلّ أربعة في صفّ واحد، أمّا في الطّابق الثّالث فهناك صفّ واحد وبنفس المواصفات والأعداد.
الإضاءة: من خلال الطابقين الثّاني والثّالث، يظهر أمام كلّ مقعد أماميّ مصباح إضاءة ضخم متحرّك مصوّب على “ستيج” العرض، عدا عن المصابيح الأخرى المعلّقة في السّقف.
هذه المسرحيّة: مؤلف هذه المسرحيّة هو مارك بارتليت، ومخرجها جاري جريفين، وشارك في تمثيلها ثلاثون فنّانة وفنّانا، منهم فنّانون معروفون ومشهورون عالميا أمثال: روبرت باثروست، كاتي سكنّر، جوردان دين، أماندا درينكال، أليس مانلي ويلسون، جونثان وير.
تعرض هذه المسرحيّة منذ عامين متتاليين، وحازت على جوائز عالميّة عدّة، والعرض الذي حضرناه هو عرضها الأوّل في أمريكا.
موضوع المسرحيّة:
تنتقد المسرحيّة التي امتدت ساعتين ونصف، تقسمها استراحة مدّتها ربع ساعة محاولات الالتفاف على “الدّيموقراطيّة” تحت مسمّيات مختلفة.
ويدورموضوعها بطريقة ساخرة حول وفاة اليزابيث ملكة بريطانيا الحاليّة، وانتقال العرش بعدها لابنها الأمير تشارلز؛ لتبدأ بعدها المؤامرات للالتفاف على صلاحيّات الملك الدّستوريّة، لتنتهي بتنصيب الأمير وليام ابن تشارلز ملكا بدلا من أبيه، وتلاحظ في المسرحيّة السّخرية من الأمير هاري الابن الأصغر للأمير تشارلز وللأميرة ديانا، لتشكيك العائلة المالكة بصحّة نسبه.
الحضور:
بداية يجدر الانتباه أنّه يتمّ الحجز مسبقا لحضور أيّة مسرحيّة، ويمكن الحجز بواسطة الهاتف والدّفع مسبقا من خلال بطاقة الدّفع، لذا فإنّ جميع المقاعد مشغولة، وتتراوح أعمار الحضور بين العشرينات وحتّى الثّمانينات، وكان هناك حضور لاثنين من ذوي الاحتياجات الخاصّة يجلسان على كراسي مقعدين، ولم أشاهد أيّ طفل بغضّ النظر عن عمره، ويسود الهدوء التّام أثناء العرض، ولم نسمع رنين هاتف محمول.
تشجيع المسرح:
يبلغ سعر التّذكرة الواحدة مئة دولار في الغالب، لكنّ المسرح يعطي خصما لافتا لمن هم دون الخامسة والثّلاثين من العمر، فيبيعهم التّذكرة بعشرين دولارا فقط؛ ليشجّعهم على ارتياد المسرح.
بجانب المسرح يوجد مطعم ضخم وراق جدّا، يقدّم خصما بنسبة 15٪ لمن جاء لتناول عشائه، بعد أن يسأل النّادل الزّبائن على كلّ طاولة: هل جئتم لحضور مسرحيّة، فإن كان الجواب بالإيجاب، سيجدون الخصم في فاتورة الحساب، وبهذا يصطادون عصفورين بحجر واحد، فبخصمهم هذا يشجّعون الزّبائن على تناول طعامهم في هذا المطعم المجاور للمسرح، ويشجّعونهم على حضور المسرحيّات التي تقدّم كلّ ليلة على خشبة مسرح شكسبير، كما أنّ موقف السّيّارات التّابع للبلديّة يعطي هو الآخر خصما لمن يحضرون العروض المسرحيّة.
الدّيكور: كان الدّيكور لافتا ببساطته وعمقه، فكان العلم البريطاني يتوسّط شاشة العرض، وبقي مرفوعا بشكل طولي فوق خشبة العرض، وتغيير الدّيكور، بعد كلّ مقطع يتمّ في ثوان معدودة، وكان لافتا نزول وسحب مجسم لمدخل رئاسة الوزراء البريطانيّة في ١٠ داوننج ستريت، من أعلى المسرح بسرعة فائقة.
سرعة تبديل الممثّلين والدّيكور عند نهاية كلّ مشهد كانت تتمّ في ثوان معدودة.
حديقة جار فيلد Gar field Park
في غربيّ مدينة شيكاغو ووسط حارات السّود، توجد حديقة” ومتنزّه جار فيلد” المدهشة والمتميّزة، فهذه الحديقة التي تبلغ مساحتها 744 دونما، عبارة عن غرف زجاجيّة ضخمة، مكيّفة لتوفّر للنّباتات المزروعة فيها المناخ نفسه الذي تعيشه في الطّبيعة التي تعيشها.
وتتوفّر في هذا المتنزّه الطبيعيّ نباتات وأشجار المناطق الاستوائيّة، إلى نباتات المناطق الصّحروايّة وما بينهما، فالمناطق الصّحراوية نباتاتها شوكيّة، وهذا ما استهوى حفيدتي “لنّوش” ابنة العام والنّصف واستهوتها الحصوات التي تراها للمرّة الأولى، عندما زرنا الحديقة في نوفمبر 2016، ممّا استدعى حراستها والحدّ من حركتها كي لا تؤذيها الأشواك في أثناء زيارتها للمتنزّه رفقة والديها وجدّتها لأبيها، في حين لم أدخلها أنا لارتباطي بموعد آخر في وقت الزّيارة.
وتنبع أهمّية هذه الحديقة المفتوحة مجّانا أمام الزّائرين، أنّها توصل لزائريها الكثيرين، طبيعة حياة النّباتات في بيئاتها المختلفة، ليروها على طبيعتها وكأنّهم يزورونها في أوطانها الأصليّة.
مكتبة عامّة في متنزّه
يوم23 اكتوبر 2016 دعانا صديق لجولة في بعض مناطق الرّيف الأمريكيّ، وعلى أطراف ولاية وسكنسن مرّ بنا على مزارع أغنام لشراء خروف سنقيم عليه حفل شواء، ومررنا هناك بثلاث مزارع متجاورة لمربّي الأغنام، واحدة لشيخ ثمانينيّ، واثنتان لابنتيه وزوجيهما، كلّ مزرعة مكوّنة من آلاف الدونم، عند مدخلها بيت أنيق لأصحابها، وبجانبه “براكسات” لحفظ الأعلاف من الأمطار والثّلوج، والأعلاف هي بالات برسيم، وهناك بيت لكلاب الرّعي. المزرعة مقسّمة لحظائر، منها حظيرة للخراف المعدّة للبيع، في كلّ مزرعة آلاف الأغنام، التي يجري تقسيم الأرض لها؛ لتنتقل من جزء لآخر؛ كي ترعى الأعشاب، طبعا لا يوجد تسمين، وفي كلّ مزرعة يمرّ جدول مائي تشرب منه المواشي.
توقّفنا عند مزرعة إحدى البنات، التي اعتادت على التّرحيب بزبائنها، خرج زوجها بعدها بقليل. في حظيرة الخراف المعدّة للبيع هناك خراف متفاوتة في أوزانها، سعر الخروف مائتي دولار بغضّ النّظر عن وزنه. هناك مكان للذّبح والسّلخ، اشترينا خروفا، وذهبنا لشوائه في متنزّه عامّ قريب من المزرعة المتواجدة في منطقة تعتبر من البراري، لكنّها زراعيّة، شاهدنا حقول الذّرة، الشّوارع معبّدة، والخدمات متوفّرة من كهرباء، ماء، وانترنت.
مساحة المتنزّه حوالي عشرة دونمات على شكل مستطيل، يحيط به شارع معبّد، بعده غابة من الأشجار المعمّرة الكثيفة، في المتنزّه أشجار غابات معمّرة أيضا، ما بين الأشجار خال من الأعشاب، فيه مقاعد خشبيّة وطاولات للجلوس، مراجيح وسحاسيل للأطفال. هناك مناقل للشّواء ترتفع حوالي متر عن الأرض، وفي طرف المتنزّه مراحيض عامّة للنّساء وللرّجال، وفيها ورق تواليت رغم أنّها عامّة وموجودة في براري.
في وسط المتنزّه خزانة كتب لها أبواب زجاجية، مكتوب على أعلاها” مكتبة متنزّه صغيرة” ومكتوب أيضا:”خذ كتابا وضع كتابا آخر”، في الواقع أنّ هذه المكتبة أدهشتني بمكان وجودها، لكن من كانوا معي ويعيشون في أمريكا أكّدوا لي بأنّ هكذا مكتبات موجودة في متنزّهات كثيرة! هناك من يأخذ كتابا، يطالع فيه، وعند انصرافه يعيده إلى مكانه، لا أحد يسرق الكتب، ولا أحد يمزّقها، وحتّى الأطفال الذين يتأرجحون ويتسحسلون لا يؤذون الكتب.
عندما حلّ المساء، لاحظت أن لا إضاءة في المتنزّه الذي يفتح أبوابه من الثّامنة صباحا وحتّى العاشرة ليلا، لكنّ مكتبته استثناء، فهناك ضوء كشّاف يضيئها ويضيء محيطها.
المكتبات العامّة مكان للمطالعة
من الأمور التي صدمتني حضاريّا في شيكاغو، هذه المدينة التي تدور في فلكها مائتان وستّ بلديّات؛ لتقديم الخدمات الأفضل للمواطنين، هو وجود المكتبات العامّة، فعدا عن المكتبة المتواضعة التي شاهدتها في متنزّه عامّ، هناك مكتبات عامّة في كلّ حيّ”بلديّة” تحتوي على عشرات آلاف الكتب إن لم تكن أكثر، وفي البلديّات الكبيرة هناك مكتبات عامّة فيها ملايين الكتب، وفي كلّ مكتبة جناح خاصّ لكتب الأطفال، وفيه طاولات وكراسي خاصّة للأطفال، الذين يريدون المطالعة داخل مقرّ المكتبة. وطبعا هناك قسم خاصّ للكبار، في ساعات ما بعد الظّهيرة تجد أطفالا، يطالعون، بعضهم لا يتجاوز الخامسة من عمره، يأتي معه أحد والديه أو كلاهما، أو أحد جدّيه، وتجد في ركن الكبار أشخاصا من مختلف الأعمار، المسنّون تجدهم في ساعات النّهار المختلفة، يطالعون بصمت، يحافظون على نظافة المكان، قيّمة المكتبة تساعد أيّ شخص –مهما كان عمره- للحصول على الكتاب الذي يريده.
وللمكتبة قوانين لإعارة الكتب، وهو أن تشترك مجّانا دون مقابل، كي تحصل على بطاقة الاشتراك؛ ليسهل على قيّمة المكتبة تسجيل اسم المشترك واسم الكتاب الذي يستعيره، وتاريخ استعارته، وللاستعارة مدّة لا يجوز تجاوزها وهي ثلاثة أسابيع، على مستعير الكتاب أن يعيده خلالها، أو في اليوم الأخير منها، ومن يستعير كتابا ويتأخّر في إعادته يدفع غرامة مقدارها دولار عن كلّ يوم تأخير، وبعد عشرة أيّام من التّأخير يدفع ثمن الكتاب كاملا.
وممّا لاحظته أنّ هناك صندوقا مخصّصا للكتب المعادة، فبإمكان من استعار كتابا أن يضعه في ذلك المكان، ولا يشترط عليه أن يعيده للقيّمة على المكتبة.
المطالعة ضمن المنهاج الدّراسيّ
من خلال أبناء شقيقيّ داود وراتب، علمت أنّ المطالعة تدخل ضمن المنهاج الدّراسيّ، ولها علامة في الشّهادة، وتؤثّر على معدّل التّلاميذ، ففي الصّفوف الابتدائية الأولى في مدرسة “جمعيّة الأقصى” الواقعة بجانب مسجد في حيّ الغالبية العظمى من سكّانه عرب، وغالبيّتهم فلسطينيون في “بريدج فيو”، إحدى البلديّات الواقعة في فلك بلديّة شيكاغو، وهي مدرسة خاصّة تتقاضى رسوما شهريّة تبلغ ستمائة دولار على كلّ طالبة وطالب، وتدرّس المنهاج الأمريكي مضافا إليه مادّتي التّربية الاسلاميّة واللغة العربيّة.
وضمن المنهاج الأمريكي هناك حصّة أسبوعيّة للمكتبة، وأخرى للرّسم، وتُخصّص للطلبة من الصّفّ الأوّل إلى الثّالث الابتدائي كتب قصص للأطفال، على الأهل أن يشتروها لأطفالهم، ويعطى كلّ طفل نموذجا يحوي أيّام الشّهر كاملة، مطلوب من الأهل أن يعبّئ كلّ واحد منهم يوميّا مع توقيعه، اسم الكتاب الذي قرأ فيه لابنه وعدد الصّفحات، وفي المدرسة يجري نقاش مع التّلاميذ عمّا قرأوه أو قُرئ لهم.
وبعد الصّفّ الثّالث الابتدائيّ تخصّص للتّلاميذ مجموعات قصصيّة أو روايات، عليهم قراءتها وتقديم امتحانات بها، ولكي لا ينقطع التّلاميذ عن المطالعة، فإنّه تخصّص لكلّ تلميذ روايتان في العطلة الصّيفيّة تناسبان عمره، ويقدّم فيهما امتحان في أواخر شهر تمّوز-يوليو- أو عند بداية العام الدّراسيّ –حسب رغبته.
ومن الصّفّ الابتدائيّ الأولّ يطلب من التّلاميذ أن يكتب كلّ منهم قصّة أو قصيدة، أو أن يرسم لوحة، والهدف من ذلك هو اكتشاف المواهب في سنّ مبكّرة، لتنميتها والأخذ بيد أصحابها في مدارس متخصّصة، والذي يشعر المعلم بقدراته الكتابيّة أو في الرّسم، يرفع ذلك إلى الدّائرة التّعليميّة المسؤولة عن مدرسته، حيث هناك مختصّون يقيّمون ذلك، وإذا ما رأوا شيئا جيّدا، فإنّهم يطبعونه في كتاب، على ورق مصقول، ورسومات مفروزة الألوان، وغلاف مقوّى، ويوزّعونه، ويعطى الطّفل المبدع مكافأة ماليّة مجزية، وهذا ما حصل مع علاء ابن شقيقي داود، حيث صدرت له قصّتان الأولى وهو في الثّالث والثّانية وهو في الرّابع الابتدائيّ. وهذا ما حصل أيضا مع شقيقته هناء التي تبدو عليها بوادر النّبوغ العلميّ، وحصلت على جائزة ماليّة ٣٥٠٠ دولار وهي في الصّف الثّامن.
سألت معلّمة فلسطينيّة في مدرسة “جمعيّة الأقصى”عن مدى محافظة الطلبة على الكتب في حصّة المكتبة، وهل يطالعون فيها أم يقضون وقتا؟ فلم تفهم سؤالي، وبعد تكرار وتوضيح، استغربت السّؤال؛ لأنّ الحفاظ على الكتاب ثقافة مغروسة في عقليّة التّلاميذ، فلا يمكن أن يقوم تلميذ بالخربشة على كتاب، أو محاولة تمزيق صفحة منه.
محترفون في صناعة كتاب الطّفل
من الأمور اللافتة بخصوص المطالعة كما شاهدتها في شيكاغو، الكتب النّاطقة الموجّهة والمخصّصة للأطفال في مرحلة الطفولة المبكّرة، والتي ترافقها رسومات مفروزة الألوان تناسب المضمون وتجذب الطفل، قام برسمها مختصّون محترفون، لكنّ ما أدهشني هو ما رأيته للمرّة الأولى في حياتي، وهو وجود كتب أطفال، لها غلاف مقوّى، على طرف غلافه الدّاخلي من الجهة اليسرى، وجود فهرس أو ما يشبه الفهرس إذا كان الكتاب يحوي أكثر من قصّة، وهو عبارة عن دائرة أكترونيّة ظاهرة تشبه الزّر، وفي وسطها مطبوع بخطّ واضح اسم القصّة مع رسمتها الرّئيسة، وعندما يصل الطفل المطالع الذي لا يجيد قراءة الأبجديّة، كأن يكون ابن سنتين أو ثلاثة، بامكانه أن يضغط على ” زرّ العنوان في الفهرس” فيصدر صوت امرأة أو رجل، يقرأ القصّة بصوت جميل، وبطريقة فنّيّة رائعة، ولم أتأكّد إن كان الصّوت المسجّل للقصّة هو صوت فنّان محترف، أو صوت قارئ عاديّ، لكنّه في الأحوال كلّها صوت جميل لافت يجذب الصّغار والكبار، ولا يحتاج الطّفل كثيرا من الوقت ليتعلّم كيفيّة استعماله، وهذا ما شاهدته مع حفيدتي “لنّوش” على الأقل.
تربية المطالعة
تساءلت كما تساءل كثيرون غيري حول كيفيّة تربية أبنائنا على المطالعة وحبّ واحترام الكتاب، وقد كتبت في العام الماضي 2015، بعد أن ولدت حفيدتي لينا بنت ابني قيس في 21-5-2015، عندما أحضرت لها زميل لأمّها هديّة عبارة عن كرتونة تحوي عشرين كتابا، مكتوب عليها “من سنّ يوم إلى عام.” فذهلت من ذلك لأنّني للمرّة الأولى أرى وأعلم عن وجود كتب لمثل هذا العمر.
وهذا العام رأيت في حضانة الأطفال المتخصّصة لجيل ما بين ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، كيف توجد مكتبة لهؤلاء الأطفال المقسّمين حسب أعمارهم، حيث الفارق بين أعمار كلّ صفّ لا يزيد عن ستّة أشهر، فمثلا حفيدتي موجودة في صفّ عمر أقرانها فيه بين سنة وسنة ونصف وهكذا. ورأيت كيف تقرأ المشرفات لكلّ صفّ، وفي نفس الوقت كيف يقرأ الأطفال، وكيف يحافظون على الكتاب، فحفيدتي “لنّوش” مثلا تعرف كتبها في البيت، تفتحها وتحاول القراءة فيها، وتقرأ بصوت مسموع بلغتها الخاصّة، وكأنّها تجيد القراءة! ويقرأ لها والداها أيضا وهي في غاية الانتباه. ثمّ تعيد كتبها إلى مكانها المخصّص لها، لكنّها لم تحاول يوما أن تمزّق أحد كتبها أو أيّ كتاب أو مطبوعة في البيت، ومن يراها وهي “تطالع” ويسمع صوتها يعتقد أنّها تطالع بلغة لا يعرفها هو.
الحفاظ على البيئة
من اللافت في أمريكا هو اهتمامهم بالبيئة وجماليّاتها، لذا فإنّ من الملاحظ بشكل كبير هو وجود امتداد للغابات داخل المدن والبلدات الأمريكيّة، فيجد المرء أشجارا باسقة في محيط البيوت والمؤسّسات والفنادق، تماما مثلما يجد ذلك في الحدائق العامّة المنتشرة، والتي تمتدّ في كثير من الأحيان على مئات الدّونمات، تتوسّطها بحيرات صغيرة؛ ليتمتّع بها روّاد هذه الحدائق، حيث يرون الإوزّ والبطّ، وقد بنى أعشاشه بين الورود وأشجار الزّينة، دون أن يفكّر أيّ انسان بمن فيهم الأطفال في المسّ بها.
وهناك حدائق من آلاف الدّونمات، فيها ملاعب غير رسميّة لكرة القدم والبيسبول وغيرها، وتتداخل فيها الغابات، وهذه الحدائق تتخلّلها الشّوارع، وفيها مواقف للسّيّارات، وتتوفّر فيها الخدمات العامّة بأنواعها، وفي هذه الحدائق تتواجد مجموعات من الغزلان، الإوزّ، البط، الأرانب، وبعض الحيوانات الأخرى بين الأشجار مثل “الراكون، الظّربان، الثّعالب.” الغزلان والإوزّ تجوب الحدائق بأمان تام، تقف في الشّوارع، لا أحد يعكّر صفو مزاجها، ويمنع على سائقي السّيّارات استعمال الزّامور لابعادها عن الشّوارع. الرّاكون والظّربان والثّعالب تقترب من الزّائرين طامعة بأن يلقوا لها بعض الأطعمة، وهناك من الزّائرين من يحضر لها أطعمة كي ينعم بقربها منه. والرّاكون حيوان ثديي آكل للحوم، يعيش في مناطق مختلفة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وجنوب كندا، وتعني الرّاكون في لغة الأمريكيّين الأصليّين”الهنود الحمر” الحيوان الذي يدلك بيديه.
أمّا الظّربان فهو حيوان ينتشر في القارّة الأمريكيّة، أندونيسيا والفلبين، ويتكوّن من عائلة تضمّ اثني عشر نوعا مختلفا، وما يميّز هذا الحيوان هو الرّائحة الكريهة التي تخرج من غدّة عند مؤخّرته.
ولا يقتصر وجود هذه الحيوانات في الحدائق العامّة فقط، بل يتعدّاها إلى الحارات والمدن، فالرّاكون والثّعالب تصل البيوت لتبحث عن طعامها في حاويات القمامة، والأرانب والإوزّ تتجول بين البيوت وفي حدائقها، وقد تتكاثر في حدائق البيوت؛ لأنّ لا أحد يستطيع المسّ بها، ومن يحاول المسّ بواحد منها فإنّه يتعرّض لغرامات كبيرة. والبطّ الذي يتواجد بين البحيرات الصّغيرة وسط الأحياء السّكنيّة، لا أحد يمسّه، وقد شاهدت رفوفا من آلاف طائر البطّ، تحطّ رحالها مساء في ملاعب المدارس أو غيرها، وتنام ليلتها دون أن يعكّر أحد صفو هدوئها.
استغلال الموارد
تعدّ أمريكا الدّولة الأغنى في العالم، وهذه الثّروة لم تأت من لا شيء، بل بالتّخطيط العلميّ لاستغلال الموارد، والعمل الدّؤوب، فأمريكا البلد الأوّل صناعيّا وزراعيّا، وهي تدعم مزارعيها كي يواصلوا استغلال أراضيهم، وثقافة العمل مترسّخة لديهم، ومهاجرونا العرب لو أنّهم يعملون في بلدانهم عدد السّاعات التي يعملونها في أمريكا، لربّما ربحوا أكثر ممّا يربحون في المهجر.
واللافت للانتباه أنّ التّخطيط الأمريكيّ موجّه لاستغلال كلّ شيء، فهذا البلد الثّريّ يعيد تدوير النّفايات ويستغلّها مرّة أخرى، ففي البيوت شاهدت حاويتي نفايات لكلّ بيت وكلّ محل تجاريّ، واحدة بنّية اللون مخصّصة للنّفايات التي يمكن اعادة تدويرها، كالنّايلون، الورق، الكرتون، الزّجاج، المعادن كعلب المشروبات وغيرها، والثّانية سوداء اللون للنّفايات الأخرى، مثل بقايا الطّعام وغيرها. وقد شاهدت أنّ هناك سيّارات مخصّصة لكلّ نوع، تأتي السّيارة، فيمدّ سائقها “ذراعا” متحرّكة، لها يدان طويلتان، تحمل الحاوية وتلقي ما فيها في مخزن سيّارته من الجهة العليا، ثمّ يعيد الحاوية إلى مكانها، ورغم كثرة المياه ومصادرها إلا أنّهم يعيدون تكرير مياه المجاري؛ لإعادة استعمالها في الزّراعة، أو لتصبّ في الأنهار والبحيرات والبحار، كما أنّهم يعيدون تكرير واستعمال “الحصمة” المكشوطة من الشّوارع عند ترميمها.
وإعادة التّدوير والتّكرير يصيدون بها أكثر من عصفور بحجر واحد، فهي مفيدة اقتصاديّا، وموفّرة للموادّ الخامّ المستعملة في مختلف الصّناعات، والأهمّ من ذلك هو الحفاظ على نظافة البيئة والحرص على عدم تلويثها، ومن هذا الجانب فإنّهم وبوازع فرديّ مغروس فيهم كسلوك، فإنّهم لا يلقون أيّ فضلات في الطّرقات أو في الطّبيعة بما في ذلك البراري التي لا يراهم فيها أحد. ولديهم مقولة سمعتها من أكثر من شخص مفادها” أنّ من لا يحافظ على نظافة وطنه فإنّه لا يستحق العيش فيه.”
عندما يغضب أطفال أمريكا
لفت انتباهي منظر بيت في إحدى ضواحي شيكاغو حديقته من ناحية المدخل الرّئيس تضجّ بحبال من لفّافات ورق التواليت، تمتدّ بين الورود وتتداخل بين أغصانها؛ لتصل بعض النّوافذ، ولمّا استفسرت عن سبب ذلك، ضحكت من الجواب الغريب عليّ، والمألوف أمريكيّا، وهو غضب أطفال الحارة من صاحب البيت، فيحضر بعضهم لفّافات من ورق التواليت، وينشرونها على الورود وأغصانها، وبالتّأكيد فإنّ لكل بيت حديقة خاصّة، ونتيجة هذا العمل الصّبياني هو ازعاج صاحب البيت الذي سيقضي وقتا وهو يجمع تلك الأوراق.
أمّا الأسباب التي تثير غضب الأطفال، ممّا يدعوهم للقيام بهكذا ردّات فعل غاضبة، فهو عدم استجابة صاحب البيت لهم عندما يطرقون باب بيته في “عيد الهلوين” على سبيل المثال لطلب الحلوى، كما جرت العادة في هكذا مناسبات، من هنا فإنّ الأمريكيّ يحتاط في هكذا مناسبات بأن يضع صحنا مليئا بالسّكاكر والشّوكلاتة عند عتبة بيته الخارجيّ، إن كان غير متواجد في البيت في هكذا مناسبات، أو كان موجودا ولا يرغب بفتح الباب، فيأخذ كلّ طفل حبّة حلوى واحدة، ويغادرون فرحين إلى بيت آخر وهكذا.
وإذا ما انتبه صاحب البيت “المغضوب عليه” من الأطفال لهم وهم ينشرون ورق التواليت عند باب بيته، فإنّهم يهربون ضاحكين، في حين يمنع عليه مطاردتهم حسب العادة والقانون.
فريق الدّياسم وماعز بيلي
في شيكاغو ناد رياضيّ اسمه الدّياسم، والدّيسم هو ابن الدّب، والحديث هنا ليس عن النّادي ولا عن فريقه، ولا عن الدّبّ وأبنائه، لكنّها عن فريق الدّياسم الذي خرج من نحسه، حيث لم يفز بمباراة منذ عشرات السّنين، إلا يوم 22 اكتوبر 2016، حيث فاز بمباراة في الكرة الأمريكيّة، وتأهّل للمرحلة النّهائية، وحظي على تغطية من وسائل الاعلام، ومن جمهوره الواسع حرمنا من وجبة عشاء في أحد المطاعم، لاكتظاظه بالجمهور الذي كان يراقب المباراة.
وآخر مرّة فاز فيها هذا الفريق في الدّوري الأمريكيّ كانت عام 1907، وتأهّل للمرحلة النّهائية عام 1948.
والطّريف في الأمر أنّ الخيال الشّعبيّ الأمريكيّ اختلق حكاية لا يزالون يردّدونها حتّى الآن، وهي التي تسبّبت بخسارات الدّياسم المتلاحقة. وهذه الحكاية هي حكاية “ماعز بيلي” وتقول الحكاية التي استندت على حادثة حقيقيّة هي: أنّ بيلي شخص عاديّ يقتني ماعزا، ذهب لحضور مباراة لفريق الدّياسم بصحبة ماعزه، فتضايق مجاوروه من رائحته التي تحمل رائحة حظائر الغنم فطردوه، بينما تقول رواية أخرى” أنّهم لم يسمحوا له بالدّخول بصحبة الماعز، وفي كلتا الرّوايتين، فإنّ بيلي دعا الله أن لا يربح ذلك الفريق الذي حرم ماعزه من مشاهدة المباراة!
ومن الطريف أنّ إحدى الجمعيّات الخيرية المتخصّصة بمساعدة الجياع في إفريقيا، قد استغلّت تلك الحكاية لجمع التّبرّعات لصالح مشروعها الخيري، فوضعت إعلانات في التلفزة والصّحافة والشّوارع تقول” تبرّع بماعز للمحتاجين في افريقيا، كي يستطيع فريق الدّياسم أن يتغلّب على نحس ماعز بيلي ويفوز بالمباراة”، وقد صدقت نبوءة الجمعية وفاز فريق الدّياسم هذه المرّة، وتأهّل للمرحلة الأخيرة.
في المزرعة التّراثيّة الأمريكيّة
يوم ٢٢ أكتوبر 2016 ذهبنا لزيارة مزرعة “فولكنج” التّراثيّة في بلدة “شامبيرج” إحدى ضواحي مدينة شيكاغو في ولاية إلينوي الأمريكيّة، ولهذه المزرعة التي كانت مزرعة لتربية الأبقار، ومساحتها مئات الدّونمات تاريخ عريق، فقد تأسّست عام 1840،وبقيت حتّى أغلقها أصحابها في بدايات خمسينات القرن العشرين. في بداية سبعينات القرن نفسه اشترتها بلديّة “شامبيرج” لتكون مفتوحة للزّائرين، كشاهد على مرحلة تاريخيّة من حياة الشّعب الأمريكيّ، وقد أعادت البلديّة بناء البيوت و”البراكسات” كما كانت، بما في ذلك بيت مؤسّس المزرعة الذي بني عام 1852، ووضعت فيه نفس الأثاث والأواني التي كانت مستعملة في حينه، كما بنت مرحاضا خارج البيت، على نفس النّمط القديم، وحوله “معرش عنب” وحوض سلق. والذي يشاهد أثاث هذا البيت سيجد أنّه لا يختلف عن أثاث الأسر الميسورة في بلادنا في بدايات خمسينات القرن العشرين، وهذا يعني أنّنا نعيش بفارق زمنيّ وحضاريّ بيننا وبينهم يزيد على المائة عام.
المزرعة مقسّمة إلى حظائر للحيوانات المختلفة، ترتبط بطرقات للمشاة، فهناك حظائر للخيول، الأبقار، الخنازير، أمّا الدّجاج فهو ينتشر طليقا، يرعى الأعشاب ويعود إلى أكواخ مخصّصة له متى أراد.
في المزرعة نماذج للأدوات الزّراعيّة التي كانت مستعملة في منتصف القرن التّاسع عشر، فهناك المحراث البلديّ الذي تجرّه بقرتان، وهناك محراث له أربع سكك، بجانبيه دولابان حديديان، يتوسّطهما مقعد للحرّاث، وهذا المحراث تجرّه الخيول، وتوجد بعض الأدوات التقليديّة مثل “الشّاعوب، المذراة، الكريك”.
وهناك أكواخ تستعمل كمخازن للحبوب وللأعلاف.
في طرف المزرعة هناك جدول ماء عرضه حوالي خمسة أمتار، وهذا كان ضروريّا للمزرعة لسقاية الحيوانات، في حين أنّ مياه الشّرب تسحب بمضّخة من بئر أمام البيت، ويلاحظ أنّ الطّرقات في المزرعة تحفّ بها أشجار الغابات الأمريكيّة، والحفاظ على أشجار الغابات يبدو أنّه تراث أمريكيّ لتجميل البلد.
زرنا المزرعة أنا وزوجتي وابني قيس، وحفيدتي”لينا” لنّوش التي كانت نجمة الزّوار بلا مبالغة، فقد كانت تدرج في الطّرقات كطائر الشّنّار، تضحك وتردّ الابتسامات لمن يبتسمون لها، لم تتردّد في الإمساك بأذن الحصان الذي وقف والدها بجانبه، حاولت الإمساك بعدد من الدّجاجات.
عندما تعبتُ وجلست على الأعشاب الخضراء لأستريح، لم تتركني لنّوش، فكانت تعود لي، تجلس بحضني، تتكلّم معي وكأنّها تدعوني لمواصلة المسير.
لينا في الحضانة
نظرا لكون والدي لينا يعملان، فإنّهما يضعانها في حضانة، والحضانة في بلاد “الكفّار” تختلف جدّا عن حضانات بلادنا –إن وجدت-. ويبدو أنّ دور الحضانة مؤسّسات ربحيّة، لها فروع ممتدّة في مختلف مناطق الولايات المتّحدة، كما يبدو أيضا أنّها “طبقيّة” أيضا.
والحضانة التي تذهب إليها حفيدتي لينا، تتقاضى 1460 دولارا في الشّهر، عن خمسة أيّام في الأسبوع، ومقرّها مجهّز بكلّ احتياجات الطّفل –حسب عمره- ويوضع مع أطفال من جيله، فلينا مثلا في غرفة واسعة مع خمسة أطفال أعمارهم بين سنة وسنة ونصف. ومشرفات الحضانة جامعيّات متخصّصات بتربية الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، ويقدّمون للأطفال وجبات طعام منتظمة، وينظّفون عليه باستمرار، كما يضعون لهم برامج تعليميّة تتناسب وأعمارهم.
ومساحة غرفة الحضانة تبلغ حوالي ثمانين مترا مربّعا، ملحق بها ساحة خاصّة لكل صفّ حسب عمره، ومجهزّة بألعاب ومراجيح تناسب أعمارهم.
وتستقبل الحضانة حيث توجد لينا الأطفال من سنّ ستّة أسابيع حتّى ثلاث سنوات.
ومن اللافت أنّهم يرسلون لوالدي الطفل رسالة إلكترونيّة يوميّة، تتضمّن ما تلقّاه الطّفل في الحضانة، وماذا أكل وشرب؟ وكيف يتعامل مع الأطفال الآخرين. كما تحوي الرّسالة صورة يوميّة للطفل يبدو أنّ من تلتقطها محترفة وتغتنم فرصة وضعيّة الطفل المناسبة لتلتقط له صورة لافتة.
ومن شدّة اهتمامهم بالأطفال في هذه الحضانات، فإنّ أيّ بوادر مرضيّة على الطفل سبب كاف للاتّصال بوالدية؛ ليأخذوه إلى الطّبيب، ولا يسمح له بالعودة للحضانة إلا بتقرير طبّيّ يثبت شفاءه، أو أنّ حالته المرضيّة غير معدية، كأن ترتفع حرارته بسبب التهاب “اللوَز” مثلا.
عيد ويوم التسوّق
احتفل الأمريكيّون في 24 نوفمبر 2016 بعيد الشكر Thanks giving ، وهو يوم عطلة رسميّة، ” ويحتفل الأميركيون بعيد الشكر الذي يطبخون فيه الدّيك الرّوميّ ويحضرون فيه أيضا أطباق القرع المعسل، ومختلف أنواع الحلوى بالجبن التي لا تحضّر سوى في هذه المناسبة وعيد الكريسماس.”
والمطاعم الأمريكيّة تحرص في ذلك اليوم على وجود لحم الحبش في مطابخها، وقد تناولت طعام الغداء في ذلك اليوم في مطعم فندق فاخر في شيكاغو، وقد حرص الأمريكيّون على أن يكون طبق من لحم الحبش على موائدهم، حتّى أنّ نادلا حثّني على ضرورة تذوّق لحم الحبش بمناسبة العيد، لكنّني لم أستجب لدعوته.
وفي هذا اليوم تخرج العائلات الأمريكيّة في رحلات إلى أماكن يمكنهم التّمتّع برؤية جمال الطّبيعة فيها، ويرتادون الحدائق العامّة للتّرويح عن أطفالهم من خلال استعمال المراجيح وغيرها ممّا يهمّ الأطفال.
ومن عاداتهم أنّهم يعتبرون أوّل يوم جمعة بعد عيد الشّكر يوما للتسّوق يسمّونه “الجمعة السّوداء” Black Fridayوهو أكبر يوم للتسوّق في العام.وحدّثتني امرأة من أصول عربيّة تعمل في مجال “دراسة السّوق” في شركة أمريكيّة عملاقة، أنّها تعلم من خلال عملها أنّ المحلات الضّخمة والتي تتبع شركات ضخمة، تقوم برفع أسعار منتوجاتها قبل هذا اليوم بأسبوعين أو أكثر قليلا بنسبة محدّدة، لتقوم بتخفيض لأسعارها بنفس النّسبة كتنزيلات في يوم الجمعة السّوداء، ليقينها أنّ بضاعتها ستجد من يشتريها في ذلك اليوم، لأنّ المواطن الأمريكيّ على يقين تامّ بأنّه هو الرّابح بشراء احتياجاته في ذلك اليوم.
.”
تاريخ عيد الشكر
يعود الاحتفال بعيد الشّكر إلى أوائل القرن الـ17 عندما بدأت هجرة الأوروبيّين إلى القارة الأميركيّة هربا من اضطهاد الكنيسة الإنكليزيّة لهم.
وتقول مراجع تاريخيّة إنّ عددا كبيرا من المهاجرين البريطانيّين هربوا إلى هولندا، ومن هناك إلى السّاحل الأميركيّ مستعملين قاربا خشبيّا اسمه Mayflower، وكانت رحلة طويلة وشاقّة مات فيها الكثير منهم بسبب التّعب والجوع والمرض.
ووصلت الرّحلة في النّهاية إلى الشّاطئ الشّرقيّ لولاية ماساشوستس، وكان ذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1621. غير أن وصولهم تزامن مع دخول فصل الشتاء الذي يتميّز بالبرد القارس والأمطار الغزيرة، علاوة على الثّلوج التي أهلكت معظمهم بسبب جهلهم بطرق الصّيد والزّراعة، وقد تمّ إنقاذهم على يد اثنين من الهنود الحمر هما “ساموسيت” و “سكوانتو”، اللذان شرعا في تعليم المهاجرين الجدد كيفيّة صيد الطيور والحيوانات والأسماك وزراعة الذّرة.
وبعد فترة قرّر المهاجرون الذين تحولوا إلى مواطنين أميركيين بعدما استوطنوا العالم الجديد الاحتفال بالنعمة التي منّ بها الله عليهم في بلادهم الجديدة، ووجّهوا الدّعوة إلى الهنود والقبائل التي ينتميان إليها للاحتفال بما أسموه حينذاك عيد الشّكر، وتناولوا فيه الدّيك الرّوميّ في مأدبة مهيبة، استغرقت الليل كلّه، تبادلوا خلالها الأنخاب مع السّكان الأصليين من الهنود.
وهكذا تحوّل عيد الشكر إلى مناسبة سنويّة للاحتفال بالنّعم التي يتمتع بها الأميركيون.