لماذا هجر الوحيُ محمدًا خمسة عشر يومًا؟

عبد الله جمعة | الإسكندرية – ناقد ومفكّر مصري   

اعتدتُ عندَ تلاوتي شيئًا من القرآن أن أقف قليلاً أتأمل أسباب النزول ؛ ففيها مفاتيحُ ترشدني إلى الفهم … كنتُ أتلو ذات جمعة سورة الكهف و وقفتُ على قوله تعالى: “{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}” من السورة ، ثم فتحتُ أسباب النزول فعلمتُ أنه عتاب من الله لمحمد صلى الله عليه و سلم ؛ لأنه ردَّ عن ثلاثة أسئلة لأهل مكةَ دونَ أن يقدم المشيئة ، فقطعه الوحي خمسة عشر يومًا … فتساءلت ؛ لماذا لم ينزل الوحي في الآن لحظة الفعل من محمد و تركه كل تلك الفترة ثم نزل عليه بالعتاب التأديبي من الله سبحانه وتعالى ؟

سأذكر أولا سبب النزول الذي لا يخفى على كثير منا.

روى ابن عباس :

روى ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صل الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال: فقالت لهم الأحبار: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم:

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار اليهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها فجاؤوا رسول الله صل الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صل الله عليه وسلم: «أخبركم غدًا بما سألتم عنه» ولم يستثني، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صل الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا ولا يأتيه جبريل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدًا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صل الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ثم عاتبه بقوله “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24)” [الكهف] .

أَلَمْ يكُن الله قادرًا أن يُنزِلَ الوحي في ذات اللحظة التي قال فيها محمد “أخبركم غدًا بما سألتم” حتى يقدم المشيئة وقتها فلا يتعرض لذلك الحرج أمام أهل مكة !

تلك عظمة التربية الربانية و التأديب الإلهي و التقويم الرحماني …

في علم نفس التربية الحديث نظرية تسمىٰ “التعلم عن طريق المحاولة و الخطأ” و يقال إن مؤسسها (إدوارد لي ثورونديك) الأمريكي قد توصل في القرن العشرين إلى أن ذلك الأسلوب في التربية هو الأرسخ في المفسعو غير القابل للنسيان ؛ إذ تتحول الخبرة المُحَصَّلَة عند المتعلم إلى سلوك يدخل ضمن الضفيرة العصبية المتعلم أي تتحول إلى سلوك لا إرادي .

و تقوم تلك النظرية على عدة فروض في التعلم و التأديب أهمها :

أن الكائن الحي يتعلم حل المشكل بنفسه عن طريق المحاولة و الخطأ .

و يكون ذلك بأن يتعرض للمشكلة بنفسه دون أن يُلَقَّنَها نَظَرِيًّا فتثبت الخبرة و تتحول إلى سلوك معتاد كجزء من تكوينه النفسي .

و مثال ذلك : إنَّك إن لقنتَ متعلَّمًا أن ذلك الشيء ساخنًا ثم تركته فإنه قد ينسى ما لقَّنْتَه إياه و يعود للمسه فيصاب بالحرق و لكنك إن قُمْتَ بتسخين ذلك الشيء بدرجة مؤلمة غير مؤذية ثم تركتَه دون علم يلمسه فإن لسعه ذلك الشيء مرة فلن يعود إلى لمسه ما دام حيًّا …

تلك أحدث نظريات التعلم التي اعتمدت عليها المجتمعات المتقدمة حديثًا لتحقيق أعلى معدل من نواتج التعلم…

إن الله منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان قد طبق تلك النظرية على محمد – صلى الله عليه و سلم – فأتت ثمرتها…

لو كان الوحي قد نزل على النبي وقت قوله الكفار “أجيبكم غدًا” و نبهه أن عليه أن يقدم المشيئة لنسي بعد ذلك في المواقف التالية ، و لكن الله تبارك وتعالى أراده أن يمر بالخبرة بنفسه حتى يكتوي بهجر الوحي و ظهوره أمام قريش بمظهر يسبب له الحرج ثم يأتيه بعد ذلك ينبئه أن ذلك الهجر و ذلك الحرج أصابه لأنه لم يقل “إن شاء الله” هنا تتحقق نواتج التعلم و تثبت الخبرة ثبوت الأصل في سلوكه …

ولأن محمدًا – صلى الله عليه و سلم – لا يقع في الخطأ و أن ما يبدو منه كذلك إنما هو مردود علينا نحن المسلمين ، فإن الله قد جعل من ذلك الموقف مع النبي خبرة تعليمية لنا نحن من بعده، فإذا اطلعنا على أسباب النزول و علمنا أن نبينا المكرم المصطفى قد هجره الوحي خمسة عشر يوماً و أصيب بكل ذلك الحرج لأنه لم يقدم المشيئة ، فأي حرج سيصيبنا نحن إن وقعنا في ذلك الزلل؟ .

ذلك قرآننا مدرسة تربوية إن عدنا إليه استنبطنا كل العلوم و كل الفوائد … ما نزل القرآن ليكون تميمة ، إنما ليكون مدرسة نستنبط منها علوم الحياة الدنيوية و ننظم به سبل تقدمنا على بقية الأمم .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى