رسائل إلى السيدة «ع» (5)

بسّام الشاعر | مصر – الجيزة

يــا «ع»… كيف أنت؟ وكيف يمر الوقت بين يديك؟!

ما أسرع مرور الأيام يا «ع»! إنها تمرقُ منقضية كلمح برْقٍ أومضَ ثم اختفى، كشمعةٍ نحيلة التَفَّ عليها الظلامُ فما تركها إلا وهو ينتزع آخر ومضةٍ فيها مع دخان ما تبقى من فتيلها.. النهار لا يسكن وكأنَّه مُطارَدٌ من قبل جماعة كلِّهم يريد قتلَه، وهو لا يملك أن يدفع عن نفسه إلا بالفرار منهم راكضًا أشدَّ الركض وأسرعه، والليل ذاك المخلوق الذي يبعث الفزع ويخشى الجميع قوَّته وطوله، يبدو أن علَّةً أصابته، الأيام تشيخُ وتفنى يا «ع» وكأن حجر طاحونة عظيمًا لا يكفُّ يدور عليها، يكسِّرها، يفتتها، يطحنها.. لا يفتأ يجعلها قطيعات صغيرة فأصغر فأصغر!! وكلَّما وقفتُ على أطلال نفسي أتأملها؛ وجدتني أُرَدِّدُ على مسامع أمي تلك الكلمة: «غاب نهار آخر»؛ فتقول أمي: أنت تُكرِّرُ كلمة مخيفة! إنها تحمل وحشة مفزعة بين حروفها! فهل تجدين أنتِ كذلك لها خوفًا يا «ع»؟!

نسيتُ أن أخبركِ أنَّ النهار يترك لي مع زوال شمس كلِّ يوم الكثير من الأفكار، ومع فجر كل يوم جديدٍ أكونُ قد نسَجتُ هذه الأفكار وشَدَدْتُ بعضها إلى بعض.. ولكن، ما أقصر أعمارنا يا «ع»!! تعلمين طالما كانت لي أمنية ضمَّنتُها أمانيَّ مُذْ بدأت أعقل؛ فلكم تمنيتُ مطالعة جميع ما أنتجته الإنسانية من معارف وفنون؛ أعرف أن هذا مستحيل، وأن مثل هذا لا يكون لغير قوة إلهية تحيط بما هو كائن وبما سيكون، ولكني دائمًا ما أردتُ معرفة كلَّ شيء في هذا الكون، أريد معرفة الفلسفات الإنسانية، أريد معرفة العلوم النظرية، أريد التعمق والغوص كحوت ضخم يسكن قاع المحيط في دراسة الديانات السماوية وغير السماوية، أريد قراءة آداب جميع الأمم الجيد منها وغير الجيد، أريد الاستماع لجميع الفنون التي توصل إليها الإنسان، أريد معرفة أسرار الكون كلها… أريدُ، وأريدُ، وأريدُ… بدأتُ أعتقدُ في أيامي الأخيرة أن مرضًا خطيرًا يجري في دمي، نعم.. إنه يتَسبَّبُ في جنون خلاياي؛ يجعلني في حاجة شديدة للقراءة المستمرة! يجعلني أسعى كالمجنون للبحث عن المعرفة، وددتُ لو دخلتُ عقلَ كلِّ مفكر، وفيلسوف، وعالم، وأديب… وكل من خلَّفَ فكرة تستحقُّ النظر أو لا تستحقُّ، حتى عقول المجانين؛ فإنه يقال إن نصف الحقيقة يعيش هنالك في رأسهم، حتى اللصوص، تمنيتُ الدخول لعقولهم هم أيضًا.

بتُّ يا «ع» أريد سكبَ جميع المعارف الإنسانية في عقلي ثم أنظر فيها وأرتبها وأوصل بعضها ببعض وأجعل بعضها إلى بعض؛ حتى أُسكِّنَ ذاك الجنون القاطنَ عقلي ودمي! الأفكارُ في كل مكان من حولي يا «ع»! إنها أمامي ومن خلفي تطاردني.. حتى وإن سكتَتْ عني قليلا، وتركتني أضعُ رأسي إلى الوساد؛ فإنها سرعان ما تعودُ إليَّ لتفزِّعني؛ تصطرع في رأسي وكأن حربًا اجتمع فيها قصف المدافع ودوي القذائف وضجيج الطائرات.. كل هذا جُمِّعَ ليُصَبَّ دفعة واحدة في سمعي؛ حتى أظنني أفقد عقلي، وأن رأسي بينه وبين الانفجار طنَّة بعوضة واحدة! فإذا بي أفتح عينيَّ وأفارق سريري حتى تسكنَ تلك الحرب ولو قليلًا.

وددت يا «ع» لو كان لي من العمر ألف سنة وألف عام حتى أفني جميعَها في تحصيل المعرفة وحدها، ثم الكتابة إليك، ولكن…

انتبهي لما تنوين تحقيقه في قابل الأيام، ولتكن وسائلك إليه واضحة حتى تكون النتائج واضحة بدورها هي الأخرى، وليكن أمرك كله كصاحب رقعة الشطرنج؛ هدفه ليس قتل حصان أو تحطيم فيل، بل هدفه الرئيس من أول لعبة له هو القضاء على الملك نفسه؛ الملكُ وليس غيره، فإن عرض لحماية الملك شيء؛ هلك ذاك الشيء دونه حتى يهلك الملك نفسه.

أعلم يا «ع» أنَّكِ عظيمة النفس؛ وكما كنتِ تقولين؛ النفوس العظيمة مولعةٌ دائمًا بزلزلة الجبال ونقلها من أماكنها، تجد لذتها في تَسنُّمِ الشواهق والعيش فيها، تفعل ذلك وهي شغوفة به أشدَّ ما يكون شغف، متعلقة به أشد ما يكون تعلق، فإن فقدتْ من حولها ما تنقله؛ تبرَّمتْ وأصابها الضَّجرُ، فلتحرصي يا «ع» ألا يصيبك ضجر الفقد هذا في سبيل أهدافكِ، وكذلك احرصي ألا تجهدي نفسك جهدًا يتسبب في ضرها!!

سلام على صغيرتي الحلوة التي تشبهها الملائكة.. كوني بخير من أجلي، والله يُوجِدُ السعادةَ في قلبكِ، والله يجْعلُ البسمةَ على شفتيكِ!

 

الفاضلة «ع»:

لا أدري أَمِنَ المناسب اللائق أن أكتب إليكِ بهذا أم لا! ولكني أظنكِ لن تعارضي؛ فأنتِ تعلمين أن في داخل كلٍّ منا مكانًا متى ما حَزَبَ المرء أمرٌ؛ سكن إليه!

أكتبُ إليكِ هذه المرَّة وقد تسرَّب الوهن والضعف إلى جسدي؛ حرارتي مرتفعة، رأسي به ألم يرتفع صداه مع كل نبضة للقلب، ظهري كأن به ألف بضعة سَوْطٍ وألف طعنة سيف، مفاصلي وعظامي أظنُّ أنه فارَقَ بعضها بعضًا؛ كأنني مصلوبٌ مُعلَّقٌ في عجلة التعذيب التي كان يُعذَّبُ بها «المورسكيون»( ) في سجون الإسبان؛ فانخلعت على إثر ذاك من مفاصلها عظامي.. جسدي ضعيفٌ جدًّا جدًّا يا «ع»، تَحمِلُني قدماي بصعوبة، يدي تهتزُّ مرتعشةً وأنا أكتبُ إليكِ، الأفكار تتفلَّتُ منِّي، أجمع منها ما أستطيع أن أجمع بصعوبة بالغة.. هنا كل شيء ساكن مُسمَّرٌ من حولي كأنه قد أصابه ما أصابني، فقط صوتٌ من بعيد؛ صريره منتظمٌ لا ينقطع، يبدو أنه صرصور حقل، في صريره أنينٌ مُوحشٌ! الظلام أمامي ومن حولي؛ إنه يلفُّ غرفتي ويلفُّ الوجود في الخارج، أنظر من شباكي لأجد شعاع ضوء أصفر عليلًا باهتًا يومض من بعيد، إنه ضوء عامود الشارع الواقف وحده هنالك، يبدو وكأنه ينتظر شيئًا ما! إنه ينتظر منذ فترة طويلة.. حول مصباحه عدد من حشرات الليل تتخبَّطُ في زجاجه مصطدمة به مرتدَّة عائدة إليه، يبدو أنها ليست بخير هي الأخرى.. مُواءُ قطَّة في الخارج لا يتوقف، حرارة الجو مرتفعة، ولا أدري! أمرض الليل هو الآخر أم أي شيء نزل!! لا تتعجبي إنْ أخبرتُك أني كنتُ أقرأ في كتاب الدكتور أبو همَّام «المازني شاعرًا»، وكان هذا وسقوط قواي لا يزال في أوله؛ فإذا بي أجد أعصاب المازني مضطربة متذبذبة أشد اضطراب وأقساه؛ إذ كان يعاني هو الآخر ويئنُّ، يبدو أنه رقَّ لحالي، أم أنا الذي رققت لحاله، لستُ أدري! لقد كان يعاني «النورستانيا»( ) وضعف الذاكرة، مسكين ذاك الرجل!! الحمد لله.. صوتٌ لقرآن الفجر يصدر عن مسجد بعيد، إني بالكاد أميزه.

أعتذر منكِ يا «ع».. ضرباتُ قلبي صارت منخفضة باردة، والجسد يزداد وهنًا كلما انقضى الوقت، وصار هذا واضحًا عليَّ، وكما تعلمين أنا لا أُحبُّ أن أُرَى ضعيفًا، ولكن.. ولكن اطمئني فروحي ونفسي لا تزال قوية صلبة على ما هي عليه، كما أنني قاصد الطبيب مع ظهر اليوم.

اذكريني في دعائك يا «ع» فطالما ذكرْتُك، والله يرعاكِ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى