النجف ومجالسها الثقافية.. حراك المعرفة الدائم

هدى عبدالحر | العراق – النجف الشريف

   النجف مدينة تأسّست فيها المعرفة الرصينة على أرضية صلبة، فأضحت منذ أزمنة بعيدة تعيش هاجس الثقافة والمعرفة بشكل يومي، وكأنّه زادها وشرابها الذى لا غنى لها عنه، ولا بديل.  تعدّدت أسماء النجف، فهي الغريّ، الجوديّ، ووادي السلام، وبانيقيا. وتعدّدت أيضًا ألوانها ومشاربها. النجف مدينة أعلامها  كثر، لا تسعهم موسوعة، وأحداثها التاريخية والاجتماعية تطرز كتب التواريخ والأيام. مدينة ولاّدة لشعراء وكتاب وفقهاء، ألا يكفي أن نقول إنّ منها المتنبّي(أحمد بن الحسين الجعفي303-354) مالئ الدنيا وشاغل الناس، ومنها(محمّد مهدي الجواهري1899-1996)شاعر العرب الأكبر، وبينهما كثرٌ من الشعراء، وبعد الجواهري الكثير، وأن نتذكّر قول الأستاذ أحمد أمين” إنّ النجف تطفو على بحر من الشعر”؟

  هي ميناء معرفة، يلتقي فيها الشرقي بالغربي، والشمالي بالجنوبي، والمتديّن بالعلماني، فتتكوّن جملة ثقافية مفيدة، ويجتمع على مائدتها الآسيوي، والأفريقي، العربي والأعجمي. وعند مراقدها ومزاراتها القديمة، وقرب مكتباتها الكبيرة، التي لا تكاد تخلو منها منطقة من مناطقها الكثيرة المتشعبة، ثمة حوار ونقاش دائم، فكيف لا تنمو الثقافة وتُؤسَّس لها مجالس ومنتديات ومدارس وحلقات، فتصبح هذه المجالس سمة من سماتها؟. ومن مجالسها العامرة: (مجلس مير علي أبو طبيخ، مجلس قاسم محي الدين، ومجلس الشيخ عبدالحسين الجواهري، ومجلس الشيخ جواد الشبيبي، ومجلس السيد علي بحر العلوم) وغيرها. وهي ملتقى أسبوعيّ أو شهريّ يحرص المشايخ والوجهاء وأهل الشأن الثقافي على حضوره حيث تتناول جلساتهم شتى الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والنقدية واللغوية. وقد وثّق المؤرخ النجفي منذر آل مرزه في مقال مهم ورصين لهذه المجالس فذكر منها: (مجلس الحاج سعد دوش، ومجلس آل جريو، ومجلس الحاج محمد مرزة، ومجلس آل سيد سلمان، ومجلس الحاج عبدالرزاق شمسه، ومجلس البو إصيبع، وآل الشمرتي، وآل نصار، ومجلس عطية أبو گلل، ومجلس كاشف الغطاء في دار الهدى 1992، ومجلس آل مرزة 1994، ومجلس الاثنين للسيد الدكتور حسن الحكيم 1996). وقد صمتت هذه الحركة الثقافية ردحًا من الزمن بسبب الحكم المستبد الظالم الذي هيمن على كل شيء، ولكن سرعان ما نهضت من جديد بعد 9-4  وأُسِّس عدد آخر من المجالس منها (مجلس الثلاثاء للأستاذ مكي السلطاني 2006، ومجلس المكتبة الأدبية المختصة 2004 وأمينها السيد مهند جمال الدين، ومجلس الأربعاء للدكتور حمودي جلاب 2007، ومجلس الجمعة للدكتور محمد حسين الصغير، ومجلس آل العكايشي2009، ومجلس محي الدين، ومنتدى النشر، ، ومجلس شاكر الحمداني، ومجلس عبدالكاظم الياسري  2008، ومجلس علي حداد،  ومجلس أدباء العترة، والصالون الأدبي للسيدة ابتهال سميسم 2014، وآخِرها جمعية اليقظة الأدبية 2019).

 ومن الجدير بالذكر أن هذه المجالس تناقش مختلف المواضيع، وتستضيف الشخصيات الفكرية والأدبية من مختلف محافظات العراق، ومن الوطن العربي باتجاهاتها فكرية المتنوّعة، ولا غرابة أن تُصنَّف النجف في تقرير صدر قبل عام بأنها أكثر المدن حراكًا ثقافيًا في العالم العربي في عدد الندوات والأماسي الأسبوعية والشهرية التي تقام فيها.

وإذا كتب المؤرخ ال مرزة، كما ذكرتُ قبل أسطر قليلة، عن هذه المجالس وأفاض وأسهب،  فإنّ ما دعاني للكتابة عنها أمر آخر بعيد عن التوثيق والتأريخ؛ لأقول إنّ هذه المجالس علامة مهمة جدًا على حياة النجف خاصة، وحياة العراق عمومًا، لأنها تفرّدت بميزة نادرة إذ يرتادها الشيوعيّ الماركسي، والمعمّم الحوزويّ، والقوميّ،  واليساريّ جنبًا إلى جنب، وتُناقَش فيها الأفكار بعيدًا عن التطرف والانغلاق. ولابدّ من أن يُنظر إليها بجدّ  وتقدير إذ يُعوَّل عليها كثيرًا في بناء نمط جديد من العلاقات بين المثقفين وأصحاب الرأي يسوده حبّ الآخر وقبوله بعيدًا عن تشنجات المواقف الأحادية.

   وهي فضلًا عن ذلك تمارس دورًا مهمًا في رصد كل جديد يخرج من المطابع فتناقشه، وتروج للصالح منه. إنّ المجالس في النجف ظاهرة حضارية وثقافية ومعرفية تحدت عصر التكنولوجيا واستفادت منه في الإعلان لها، وستبقى علامة على حيوية هذه المدينة وخصوصيتها بين المدن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى