لا يكفي أن تكون متعلما
رحاب يوسف | قاصة وتربوية فلسطينية – طولكرم
نمر بمن نظنهم أنهم عوام الناس، ونخاطبهم بجملٍ مفرغة من أي مضمون يدعوهم للتأمل أو النقد، جمل تداعب عاطفتهم ولا تخاطب عقولهم، جمل ساخرة منهم، لنوحي لهم أن عقولهم عقول أطفال توقفت عند سن الثانية عشرة، الأمر الذي خلق هوة في التفكير بين العوام والمتعلمين، فترى الأميّ ينكمش ويتقوقع في حضرة المتعلم، ويبدى له طاعة مطلقة لما يقول، لا ينقد ولا يعارض.
حتى نعيد الأمور إلى حقيقتها هناك فرق بين العاميّ والعالم،نحن كلنا عوام، نأتي بما فرض الله وننتهي عما نهاه، ونجدّ في فعل الخيرات والابتعاد عن المنكرات، ونقبل على تلاوة كتاب الله، هذا حد المسلم العاميّ، أما طالب العلم يرتقي فوق هذه درجة، يُطلّق الدنيا، يزاحم العلماء بالرُكب، فتصير حياته في اتجاه واحد وهو طلب العلم، فعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل يقرران أنهما لا يزالان طالبي علم، فكان أحمد بن حنبل يقول: “مع المحبرة إلى المقبرة“، وقال: “ومن أراد أن يطرق عملنا ساعة لا يتركه ساعة“، أما العالم مَنْ عَرَف الموارد والمصادر وأحاط في الأقوال، وعرف دقائق المذاهب، أقبل أحد الطلاب يُقبّل يد أحمد بن حنبل، فقال له: لا تفعل! فقال: أليسوا قد علّمونا في الأثر أن نُقبّل يد الأب والصغير والعالم، فقال أحمد بن حنبل : وهل رأيت عالما ؟ أي أنا لست بعالم.
اليوم من تخصص أي تخصصٍ يظن نفسه عالما، ولا يدري أنه لم
يبلع عشر معشار العالم، ليتبين أن هناك خلط عظيم بين العوام والعلماء، نحن متخصصون في مجالات معينة ، والتي إن لم ننمِّها، ولم نضف إليها نسخة خاصة بنا، تتكلّس وتتحجر وتتجمد بدلا من أن تزداد.
يقول جلال الدين الرومي: “مخازنُنا من أربعين سنة وهي فارغة من القمح، لا بد أن الفأرة تسللت إليها ”
لا يكفي أن نعلم ونتعلم ونتناقل المعلومات، علينا تزكية أنفسنا وتزكية من حولنا، حتى لا تقسو قلوبنا، قال تعالى : ”هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ“ (الجمعة 2).
سمع أبي بن كعب أنّ الرسول يجيزُ قراءات مختلفة، فوقع في قلبه شكٌّ كالذي كان في الجاهلية، فكان الرسول قد علم بالأمر، فضرب بكفه الشريف في صدر أبي، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – اخرج يا شيطان، فيقول أبي: “ارتفضت عرقا وكأني في هذه اللحظة إلى ربي فَرَقا”، فالرسول بُعِث للتزكية، والعالِم ترى في محياه نوراً حتى تسمعه.
العلم والمعرفة أول طريق اليقين الصادق، العلم يجب أن يستند إلى معرفة حدود معناه في الذهن، ثم تأتي المطابقة في الواقع، عرّف ابن القيم – رحمه الله – العرفان بأن يُجلى قلب المؤمن حتى يُصبح كالمرآة المجلوة، فتعكس المغيبات “اتقوا فراسة المؤمن “
قال بن القيم :
إذا سَكـــن الغديــرُ على صفــاءٍ
وجنّــب أن يحــرّكــه النسـيــم
بــدت فيــه السمــاءُ بلا امتـراءٍ
كــذاك الشمــسُ تبــدو والنجــوم
كــذاك قلـــوب أربـــاب التجلـي
يــرى في صفــوهـا اللـه العظيـم
يقول ابن القيم: “العالم دونما يقول، والعارف دونما يقود“، فكيف نصل إلى العرفان؟ نحيل العلم إلى المعرفة، وألاّ نستكثر من الحجج علينا، نتمنى يوم القيامة لو عشنا ومتنا جهلا؛ لأننا لم نعمل بعلمنا، فاقتضاء العلم هو العمل.
نصل إلى اليقين الصادق بالاجتهاد الصادق في الوصول إلى الله، والتخلق بأخلاق الصالحين، والبر ، والتقى ، والخشية ، والذكر، والعبادة باستمرار، فالطريق إلى الله طريقٌ اسمه “اهدنا الصراط المستقيم”، ذلك الطريق الذي لا يُقطع بالتمني، إنما بالسير فيه، ولا نكن قعودا عليه.
كان النبي يستغفر الله في اليوم سبعين مرة، قال تعالى: “واسجد واقترب“، أكثر من السجود تقترب من الله – سبحانه وتعالى – ولا يكن حالك في الأمس أفضل من يومك قال الإمام علي – كرّم الله وجهه – :”من استوى يوماه فهو مغبون، ومن فضل أمسه يومه فهو ملعون “