مقابلة.. قصة قصيرة

محمد سعيد | مرسى مطروح – مصر

رأيته في قلب الميدان ،يسير بجانب النافورة، يحدث نفسه، وقد استعبدته هموم الدنيا، وسيطرت عليه. ومن آن لآخر، ينظر إلي أسفل، حيث البلاط والأتربة وأحذية وأقدام السائرين، مترهل الجسد ،ولغده يتدلي فوق عنقه .يرتدي بدلة صفراء متسخة، عليها بقع زيت عفنه، ذات رائحة كريهة، و رباط عنق رمادي، لا يتناسب مع لون البدلة، ولا روح العصر .
كانت الشمس قد أغرقت الميدان بأشعتها الساخنة، لدرجة جعلتني أفك رباط العنق، وأفتح الأزرار الفوقية للقميص.

قلت لنفسي غير مصدق: أهذا هو حسام شعلان؟ سليل عائلة شعلان ،أشهر وأغني تجار مانيفاتوره في بر مصر؟! تغشت صورته النهارية، بذقنه المنبتة، وشعره الأشعث عيناه الجاحظتان، صورة أخري، ليلية، مبهجة، عابثة، وغير عابئة، وهو يحمل كأس الويسكي، وسيجارته الكنت تتدلي علي طرف فمه، يرتدي بدلة تشارلستون حمراء ،ونظراته تلاحق بشغف جسد الراقصة المرتعش علي وقع دقات الطبل .
شعرت بغصة وإمتعاض مفاجئين ،وأنا أرى صورتي في زي الجرسون ،وفي نفس الملهي، حاملا صينية مشويات وزجاجتي بيره . كنت اعمل في العطلة الصيفية . كان العرق ينسال علي جبهتي ،وكنت أتمني أن تبتلعني الأرض ،أو أن تسقط، بغته، صالة الملهي،بمن عليها، إلي أسفل، فيختفي كل شيء، البشر والحجر ، حتي لا يراني حسام بك شعلان !.
-كان زميل دراسة، طبعا من اسرة غنية، يفتح له سائق الأسرة باب السيارة ،لينزل سيادته، كالأمراء، أمام أعيننا، بينما كنت أغوص أنا وأسرتي في مستنقع من الفاقه والعوز، كنا لا نكف عن أكل المكرونة والبطاطس المحمرة و لاتزورنا اللحوم إلا في المواسم والأعياد ….ربي ربي ..لاتوجد بطاطس في البيت، ولم يتبق إلا القليل من الراتب، والشهر مازال طويلا ..ربي. …ربي …..أين هو ؟
جلست بجانب النافورة وأنا أتذكر :
أكملت دراستي الثانوية بحذاء واحد أسود، أنهك من كثرة الإستعمال وثلاثة جوارب مثقوبة. أما هو، فهو الملعقة الذهب ذاتها . فيلا وسيارة مرسيدس أحدث صيحة .
ربي هل مازلت أحقد عليه؟ أم هي ذكريات سكنت الروح وأستقرت به ؟
اختلطت علي المشاعر والأحاسيس وتداخلت، مابين شعور بالإحباط وسعادة خفية لا أدري ما حقيقتها؟! ورثاء خفي أيضا علي حاله وحالي ،ولا أفهم دوافعه !.
كنت قد حصلت علي ترقية ومكافاءة إستثنائية، لم أكن لأحلم بهما، لولا إجتهاد، وعمل مضن إستمر لسنوات .أما الاولاد فقد أصبحوا جميعا، والحمد لله، في السنوات الأخيرة من دراستهم.لكن من أي قبر بعث أمامي حسام شعلان ؟! بهذه الصورة المزرية .قفزت من ذهني صورة أخري ،وهو يحتضنني، بعدما أحرزت هدف الفوز بالكأس، لفريق مدرستنا الاعدادية .كانت سعادة لا توصف ،سعادة حقيقية، ربما تكون هذه هي المرة الوحيدة التي كنا نضحك فيها بصدق .كم مر من السنين علي هذه الصورة ؟أربعون عاما، ربما .لكن ماذا حدث ؟هل فقد الرجل أمواله في البورصة مثلا ؟هل تركته زوجته وسافرت مع الأولاد إلي الخارج ؟
فكرت أن أعود، لأحدثه، لكنني خشيت أن يساء فهمي وتقدر المسألة علي أنها نوع من التشف، فقررت، علي الفور ، أن أعود لتناول وجبة الغداء مع الأولاد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى